اخر الاخبار

أرجو من القارئ الكريم أن لا يذهب بعيداً ليظن بأن شوكة المليار مسلم قد تماسكت واشتدت في عالم التناقضات، الذي تحل فيه إرادة الأقلية لتحكم الأكثرية كما في مجلس الأمن، حيث تمتعت الدول الكبرى ولازالت تتمتع بحق النقض (الفيتو) للقرارات التي لا تنسجم مع مصالحها، وحيث وضعت تلك الدول القواعد والموازين الخاصة بها لإدارة عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكان الفيتو من حصتها الرئيسية لإيقاف القرارات التي تبتعد عن مصالحها وقد ازداد اللجوء اليه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، أبان الحرب الباردة لتوقف كل القرارات المتعلقة بالحل السليم والعادل للقضية الفلسطينية ولتدعيم اسرائيل حليفتها بالرغم من كل الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة التي ترتكبها. كما أنها كانت بالمرصاد للدول المطالبة بحقوقها.

وفي الوقت الحاضر نجد أن روسيا التي نادراً ما لجأت لهذا الحق الباطل تقف موقف العدوان الأمريكي لإيقاف القرارات الخاصة بسورية والتي تدعو لإيقاف الدمار والقتل بحق الشعب السوري لأنها لا تفكر بمنطق العدالة الدولية، وإنما بمصالحها الذاتية. تفكر بأنها قد تفقد قاعدتها البحرية في طرطوس وهذا هو مربط الفرس بالنسبة إليها ، أما أن يقتل ويهجر يومياً السوريون الأحرار فهذا بعيداً عن مصالحها البرغماتية.

لعل من فكر باستخدام الفيتو من قادتنا في مجلس البرلمان، وهم يناقشون موضوع المحكمة الدستورية العليا ومنحها لفقهاء المسلمين للاعتراض على القوانين والقواعد الخاصة بإدارة الحكم في العراق الديمقراطي، لعلهم عامدين سمّوا النقض بالفيتو لإعجابهم بموقف الدول المنتهكة لقواعد القانون الدولي كي ينهجوا النهج البعيد عن القانون والعدالة المطلوبة في العراق الجديد.

لا بد لي وأنا أخوض في هذا الموضوع الخطير أن أناقش بعض الأمور المتعلقة بالمحكمة ، التي تارة تسمى المحكمة الفدرالية العليا، وتارة المحكمة الدستورية العليا، أو المحكمة العليا أن أضع النقاط على الحروف بكل صراحة وشفافية.

اولا: أرى أن الدولة الديمقراطية الحديثة التي سوف تنشأ وليس الدولة الحالية المفككة، يجب أن تكون فيها محكمة دستورية عليا كما نشاهده في الدول الديمقراطية الحديثة، نظراً لأهمية وجود مثل هذه المحكمة للرقابة على القوانين الصادرة عن المجلس النيابي والتي تتعارض مع الدستور أو تناقض بعضها بعضاً، كما تفصل في النزاعات بين الإدارات المحلية والمركز. ويكون لها الدور الفصل في كل هذه المواقف والمنازعات. لكن يجب ان تتوفر في هذه المحكمة شروط مهمة أولها: أن لا يكون على رأسها قاضي يرأس ثلاث مؤسسات قضائية مهمة، التمييز، والمحكمة العليا ومجلس القضاء الأعلى، فلكل من هذه المؤسسات عمل يختلف عن الأخرى ويتميز بالتعقيد وضرورة التفرغ والعمل فيه بكل الوقت فكيف يستطيع شخص واحد إدارة مثل هذه المؤسسات؟

ثانياً: يجب أن يكون على رأس هذه المحكمة قاضي له خبرة واسعة في القضاء ويتميز بثقافته القانونية ومعرفته للقوانين كما يجب ان يتمتع بالنزاهة والكفاءة اللازمة لإدارة مثل هذه المؤسسة ، ويكون مستقلاً ولا ينتمي إلى أي من التكتلات الحزبية أو الطائفية أو القومية، حتى لا يقع تحت تأثير أي من هذه التكتلات.

ثالثاً: يجب اختيار أعضاء المحكمة من القضاة الأكفاء أصحاب الخبرة والدراية العالية في القضاء ومعرفة القوانين العديدة التي يتعلق بها مصير شعب يطمح لبناء دولة ديمقراطية حديثة. ويجب على مجلس النواب الذي لا يحظى حالياً باحترام العراقيين، أن ينتخب هؤلاء الحكام من منطلق الكفاءة والقدرة والمعرفة والنزاهة والاستقلالية، فلا مجال بعد الأن للمحاصصة الطائفية اللعينة، التي دمرت نسيج المؤسسات العراقية وأفضت إلى فشلها، فقد وضع في رئاستها أشخاص ومن ضمن العاملين في المؤسسات تم اختيارهم على أسس خاطئة، رجال زوروا شهاداتهم وأهم ما يملكونه أنتسابهم إلى هذه أو تلك من الكتل الطائفية، التي تميزت بعدم النزاهة والفساد المالي والإداري والسياسي. وها هو البلد غارق في متاهات المحاصصة الطائفية ولا نعلم متى نخرج منها.

وفي ختام هذه المقالة أقف وقفة قصيرة أمام تهديد خطير يحيط بنشأة المحكمة الدستورية العليا. وهذا التهديد كما نراه ونسمعه ونراقبه في مجلس النواب ينحصر في محاولة نواب الكتل الإسلامية محاولة أدخال فقهاء الدين في المحكمة الدستورية، المحكمة القانونية والرقابية على مجلس النواب والحكومة والإدارة، ومنح هؤلاء حق الفيتو لإيقاف ما يروه مناقضاً ومعارضاً لسلوكهم. ومحاولة فرضهم الأحكام الدينية الموغلة في القدم ، والتي تتنافى ومنطق القوانين الحديثة ومنطق العصر المتطور. فكيف أجاز هؤلاء لأنفسهم أن يفكروا بإخضاع أهم مرفق قضائي يتعلق به مصير القوانين والأحكام القضائية والإدارية، بفيتو يعود إلى رجال دين لا يفقهون في نظرية أو فلسفة القوانين الحديثة، التي يجب أن يعرفها جيداً ويتعمق بأحكامها القضاة أصحاب الدراسات المعمقة والخبرة الكبيرة. ولكنهم يريدون تحويل المحكمة إلى ما يشببه (مصلحة تشخيص النظام) الموجودة في الجمهورية الإسلامية والتي مهمتها خنق وإيقاف القوانين والتشريعات الحديثة، التي يرون فيها كفراً وخروجاً على الشريعة.

ولا غرابة في موقفهم هذا. إذ سبق وأن وقفوا أمام قانون الأحوال الشخصية الصادر عام 1959, بعد ثورة تموز الخالدة، والذي ساوى بين المرأة والرجل في المواريث فاعتبروه كفراً وإلحاداً، وقاوموا حكومة قاسم بانقلاب (8) شباط 1963, وحدثت المجازر البشعة بحق المخلصين من أبناء الشعب العراقي. وكذلك محاولتهم في فترة مجلس الحكم إلغاء قانون الأحوال الشخصية وقد أصدر المجلس قراره.

إلا إن الحملة الشجاعة التي قادتها المرأة ومنظمات المجتمع المدني ووقوف الأحزاب العلمانية اضطرت الحاكم (بريمر) إلى إلغاء القرار المذكور.

وهم نفس الرجال الذين تناسوا الإرهاب والفساد وحاجة العراقيين إلى الخدمات، كهرباء، ماء، طرق، البطالة وغيرها من الخدمات المهمة في حياة العراقيين. تناسوا كل ذلك ووضعوا نصب أعينهم حجاب المرأة في الدوائر وفي المدن المقدسة كالكاظمية، حيث منعوا دخول غير المحجبات لها بالإضافة إلى تحريضهم على مهاجمة النوادي والمؤسسات الثقافية كاتحاد الأدباء ونوادي الأقليات العرقية باسم الدين والمحافظة على الأخلاق. فأي أخلاق دينية تسمح بالتزوير والرشوة والفساد وسرقة أموال الشعب ولا تحارب الإرهاب بجدية.

ولنعد إلى محاولة منح خبراء الفقه الاسلامي حق الفيتو على قرارات المحكمة الدستورية العليا. ان الحديث عن الفقه سواء كان فقه القانون أم فقه الشريعة، فلا يمكن أن يكون له فسحة أو مجال في وضع القوانين أو اصدار الأحكام من قبل المحاكم الجنائية أو المدنية، فكيف يكون الأمر مع اختصاصات وعمل المحكمة الدستورية العليا، التي من مهماتها الأساسية الرقابة على القوانين التي تتناقض وأحكام الدستور، وعلى تفسيرها وصحة أحكامها.

إن فقه الشريعة بعيد كل البعد عن عمل القضاء ووضع القوانين ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالقوانين الحديثة المطبقة في العراق أو الدول الحديثة أو التي قد تلقب بالدول الإسلامية. فتطور الحياة وتعقدها والتطور الحاصل في العلوم والتكنولوجيا والعلاقات الإنسانية والدولية، وتطور عمل المصارف والشركات الداخلية والدولية حتّم ظهور قوانين جديدة لا علاقة لها بالشريعة الإسلامية عدا ما تعلق الأمر بموضوع الإرث, والزواج, والطلاق. فعشرات القوانين المطبقة في العراق جاءتنا من الدول المتطورة في مجالات العلاقات المدنية والتجارية والمصرفية والائتمان، وكذلك في مجال القانون الجنائي وأصول المرافعات المدنية والجنائية، والتي لم تعرف الدولة الإسلامية أيام الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية أي شيء عنها. فكانت الدولة آنذاك هي دولة الإسلام وخارجها دولة الكفار، وكان الخليفة ومن حوله لا يهمهم سوى جمع المال والجواري حتى أن أحد خلفاء بني العباس (المتوكل) كان يمتلك (6) آلاف جارية فكيف يهتم أولئك الخلفاء بشؤون الرعية ويحكموا بالعدل بينهم. ولا أنكر ان الإسلام في وقته تضمَّن الكثير من أحكام العدالة والأنصاف ولكنهم أي الخلفاء تنكروا لذلك وكان همهم امتلاك الجواري والأموال المستحصلة بالقوة من رعاياهم.

قد يتساءل القارئ من أين جاءت فكرة حق الفيتو لفقهاء الشريعة الإسلامية على المحكمة العليا، والحكم في قضايا الدولة المختلفة، سواء تعلق الأمر بالتشريع أو الإدارة أو الاقتصاد ولا علاقة له بفقه الشريعة مطلقاً سوى أنهم بهذا الطريق يبتغون عرقلة قيام الدولة الديمقراطية الحديثة بسلطاتها الثلاثة التشريعية، القضائية، الإدارية، والفصل فيما بين السلطات ووجود رقابة المحكمة العليا في حالة الخروج على أحكام وسلطات كل من هذه المؤسسات الدستورية الحديثة.

وهناك أمر في غاية الأهمية وهو اختلاف الفقه والفقهاء الإسلاميين فيما بينهم، فالفقه الجعفري والحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي تتعارض الأحكام فيها في مختلف الشؤون التي تقضي وتفتي بها. فمن سيترشح من فقهاء هذه المذاهب للمحكمة العليا ليقضي بشرعية أو عدم شرعية القوانين؟ وكيف ستحل هذه القضية إذا اتفقنا جدلاً على صلاحيتها؟ إن المذاهب لم تتفق حتى الآن على رؤية هلال رمضان والعيد والعالم الذي وصل إلى معرفة أدق الأسرار عن النجوم والمجرات التي تبعد ملايين السنين الضوئية. وكان لفتوى العالم الراحل السيد محمد حسين فضل الله وزنها الكبير في اعتماد النواظير الحديثة لتحديد مطلع الشهر الفضيل.

فكيف سيتفقون على من يمثلهم في المحكمة الدستورية العليا، وهم في الأساس مختلفون في أغلب قضايا الفقه الإسلامي، حتى وصل الأمر إلى القتال والنزاع والمحاصصة الطائفية في بلدنا الممزق.

أن دقة الأحكام ودقة القوانين تستوجب تشريعاً صحيحاً وناضجاً ومتكاملاً كيلا يُسمح بالتلاعب أو بالتفسيرات الخاطئة في صدور الأحكام. ولذلك يتوجب اختيار قضاة لهم باع طويل وخبرة كبيرة في القضاء حتى يتم السير بالنهج الصحيح في أدارة الحكم وفي عمل التشريع فالمحكمة العليا مهمتها الأساسية رقابة القوانين وانسجامها مع الدستور وفض النزاعات بين الإدارات المحلية والمركز وتفسير القوانين. لذا نحذر من محاولة فرض فقهاء في المحكمة العليا يتمتعون بالفيتو لأن قيام مثل هذه المحكمة سيكون عقبة كأداة أمام تطور العراق وتحوله إلى جمهورية ديمقراطية حديثة.

كما نحذر من إبرام الصفقات في دهاليز البرلمان من قبل الكتل البرلمانية ففي إبرام صفقة المحكمة بوجود فقهاء للشريعة مع حق الفيتو تدمير للخطوات الدستورية التي نأمل أن يسير عليها العراق الجديد.

عرض مقالات: