اخر الاخبار

طرح أنطونيو غرا مشي أفكاره التجديدية في ظل صعود الفاشية الايطالية وتعاظم نفوذ النازية الالمانية في خضم الحرب العالمية الثانية، وكانت الاحزاب الشيوعية والعمالية الاوربية تعاني من ظروف معقدة وهجوم نازي فاشي أودع الكثير من قادتها بمن فيهم غرامشي في المعتقلات والسجون، وانتقلت غالبيتها الى العمل السري والكفاح الثوري بكافة اشكاله بما فيه الكفاح المسلح ضد الجحافل النازية والفاشية.

وتشكل افكار غرا مشي النقدية بداية مرحلة جديدة في الفكر الماركسي في أعقاب رحيل لينين واغتيال تروتسكي وتعاظم المد الستاليني في الحركة الشيوعية العالمية، وكانت مفاهيم غرا مشي الجديدة هي قراءة نقدية للمفاهيم القديمة وإعادة الاعتبار للاطروحات الفلسفية والدراسات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي سبقت الماركسية، وقد تم  تناولها بروح النقد الماركسي، وتوظيف ذلك النقد في تجديد الماركسية كفلسفة قابلة للحياة، وأنتقد غرامشي الماركسية التقليدية( المدرسية)  في معالجتها لمفهوم المادية التاريخية ووضعه في اطار قوالب جامدة غير قابلة للحياة وغير ملائمة لتطورات العصر الراهن وروح الماركسية ومفهوم علم الاجتماع الماركسي .

ومن أهم القضايا التي تناولها غرا مشي قضية الكتلة التاريخية والتي جرى تناولها من قبل العديد من الباحثين والدراسين وجرى التركيز عليها، فيما لم تلق الاهتمام الكافي قضايا كثيرة تم تناولها في كتاباته، مثل الهيمنة وتبادل المواقع الطبقية، والمفهوم الجديد للحزب الطليعي، وطبيعة الصراع الطبقي في ظل المجتمعات المتباينة التطور، ودور الوعي والثقافة والمثقف العضوي في التغيير والثورة، وقد أناط غرا مشي دورا أساسيا للمثقف العضوي الذي ميزه عن المثقف التقليدي، من خلال الدور الهام الذي يلعبه المثقف العضوي عبر منظمات المجتمع المدني للإحداث التغيرات الثورية المنشودة والذي أطلق عليها حرب المواقع .

إن فشل تجربة المجالس العمالية في ايطاليا في العشرينات جعلته يعيد تقييم الكثير من القضايا النظرية حول الدولة والثورة، مستندا الى التصورات الماركسية الموجودة في ( كتابات ماركس وانجلس)، وعلى الرغم من شحتها حسب ما يذكر بعض الباحثين وورودها متناثرة في تحليلات ماركس وانجلس وكتاباتهم الصحفية ومراسلاتهم الشخصية، لكنه استطاع ان يعيد قراءة تصورات لينين في كتاب الدولة والثورة، وكانت دراسته للدولة منطلقة من دراسة دور الأحزاب وقادة المجتمع المدني في بناء الدولة والحياة السياسية، فكتب يقول:

“تخلق الطبقات الأحزاب وتكون الأحزاب كوادر الدولة والحكومة، أي قادة المجتمع المدني والمجتمع السياسي. وينبغي أن تكون ھناك علاقة مفيدة ومثمرة بين هذه الظواهر والوظائف، فلا يمكن تكوين القادة بدون النشاط النظري للأحزاب وبدون المحاولة المنھجية لاكتشاف ودراسة الأسباب التي تحكم طبيعة الطبقة التي تمثلها وكيفية تطورها، ومن هنا كانت ندرة الكوادر اللازمة للدولة والحكومة، وفساد الحياة البرلمانية، وسھولة تفكك الأحزاب وتحللھا نتيجة للفساد واستيعاب الأفراد القليلين الذي لا غنى عنھم. ومن ھنا أيضا، كان فساد الحياة الثقافية والنقص الرھيب في الثقافة الرفيعة، فبدلا من التاريخ السياسي نجد معرفة واسعة خالية من الحياة، وبدلا من الدين نجد الخرافة، وبدلا من الكتب والمجلات العظيمة الصحف اليومية وبدلا من السياسة الجادة المشاجرات العابرة والمعارك الشخصية” (1)

إن ماطرحه غرامشي في ثلاثينات القرن العشرين نجده اليوم ماثلا في العديد من البلدان بما فيها بلادنا العراق حيث التطور الاقتصادي المتباين والفساد والمحاصصة والهوة الكبيرة الحاصلة في التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإنساني بسبب سياسة القوى المتنفذة المتحاصصة الفاسدة، وتأثيرها وحضورها السلبي في التطور الاقتصادي الاجتماعي وعملية بناء الدولة العراقية بعد الاحتلال الامبريالي الامريكي .

لقد حاول غرامشي ان يشبه الصراع السياسي في الصراع العسكري المسلح، عبر فكرة حرب المواقع التي تسعى الى بسط الهيمنة الثقافية عبر الاقناع والهيمنة، عبر الوعي التنويري الرامي الى التغيير السلمي، والتي اطلق عليها حرب المواقع لهيمنة الطبقة العاملة وحلفائها على المجتمع بالطرق السلمية، وكتب عن أشكال حرب المواقع كالأتي:

“ثلاثة أشكال للحرب: حرب -1921 ورومانيا في الحركة، وحرب المواقع الثابتة، والحرب السرية underground war ومقاومة غاندي السلبية هي حرب  مواقع ثابتة، تتحول في لحظة معينة إلى حرب حركة، وفي لحظة أخرى تصبح حربا سرية. والمقاطعة هي شكل من أشكال حرب المواقع، والإضرابات حرب حركة، والإعداد السري للقوات وتسليحها تنتمي إلى الحرب السرية، ولا بد أيضا من التوصل إلى نوع من التكتيكات الفدائية مع مراعاة الحذر الشديد في استخدامها”(2)

لقد تأثر الكثير من المثقفين بأفكار غرامشي وتناولها الكثيرين منطلقين من انتماءاتهم الفكرية، ومن حيث قربهم وبعدهم عن الفكر الماركسي ، ولكن افكاره الانسانية كانت المشتركات للتلاقي والاختلاف حول العديد من القضايا المطروحة للبحث والنقاش والحوار، ومن هذه القضايا الهامة  المفهوم الطبقي لأساليب الكفاح في الصراعات السياسية، حيث يقول “وثمة نقطة أخرى، علينا أن نتذكرها، وهي أنه لا ينبغي أن نقلد أساليب الطبقات الحاكمة في الصراع السياسي، حتى لا نقع فريسة سهلة في الشراك المنصوبة، وھو ما يحدث كثيرا في المعارك الراهنة. إن بنية الدولة المنهكة أشبه بجيش منهك، حيث يدخل الكوماندوز، أي التنظيمات المسلحة الخاصة، ميدان القتال، وأمامهم مهمتان: استخدام الوسائل غير المشروعة، بينما تبقى الدولة في الظاهر ملتزمة بإطار الشرعية، وبهذا يعيدون تنظيم الدولة ذاتھا. ومن الغباء الاعتقاد بأنه يمكن مواجهة النشاط غير المشروع بنشاط من نفس النوع، أي محاربة تكتيك الكوماندوز بتكتيك مماثل. وهذا يعني الاعتقاد بأن الدولة ستظل عاجزة عن الحركة، وهذا لا يحدث أبدا، بصرف عن الظروف الأخرى التي قد تختلف”. (3)

وفي قراءته لتاريخ ايطاليا القديم، يرى أنه في وضع اللادولة في ايطاليا في ظل الحكم البابوي يصبح الدين أيضا سياسة عبر التدخل في الشؤون الداخلية السياسية على الرغم من ان سلطة الكنيسة الدينية لا تخضع لسلطة زمنيه فيما تمارس على الصعيد الواقعي سياسة محددة وزمنية مؤثرة في الاحداث اليومية، وهذا الواقع نواجهه اليوم في بلادنا العراق في ظل الخلط بين السلطة الروحية الدينية والسلطة السياسية.

ويوضح غرامشي في معالجته لهذه الموضوعة بأنه “يمكننا أن نجد في كتابات مكيافيلي ما يثبت ما سبق أن لاحظناه في موضع آخر: من أن برجوازية العصور الوسطى الايطالية لم يمكنها الانتقال من الطور الطائفي إلى الطور السياسي، لأنها لم تكن قادرة على التحرر تماما من رؤية العصور الوسطى الكوزموبوليتانية (الكسمبلوتية- اللاوطنية )، التي يمثلها البابا، ورجال الدين. وبعبارة أخرى، كانت عاجزة عن خلق دولة مستقلة، بل بقيت في إطار العصور الوسطى، اي الإقطاعي، الكوزموبوليتاني ( الكسمبلوتي _ اللاوطني” (4)

 ان رؤية غرا مشي يمكن ان نجد تجسيدها في نموذج العراق السياسي بشكل خاص وفي العالم الثالث والدول الفقيرة بشكل تجري فيه الصراعات السياسية والحرب بالوكالة وتستخدم القوى السياسية في البلد المعني ومنها بلادنا أدوات بيد الدول الاقليمية والدولية للتدخل في الشؤون الداخلية ونهب ثروات الشعوب مصادرة حريته ومستقبله، مما يضع امام القوى الوطنية والتقدمية والديمقراطية  مهمة جسيمة في أعادة قراءة غرا مشي بروح القرن الواحد والعشرين.

ان غرامشي في قراءته للدور الذي لعبه موسليني وهتلر في تغير الواقع السياسي  والخارطة السياسية الاوربية، وما لعبه ستالين في تغيير واقع الحركة الشيوعية والعمالية العالمية وتأثير افكاره وسياسية عبادة الشخصية على الكومنترن، جعله يعيد قراءة دور الزعيم في الحياة السياسية على الرغم من قناعته بالتعريف اللينيني للقائد ودوره في الحياة الحزبية والسياسية، وانطلق من الحياة الثقافية في تشبيه شخصية الفنان بالزعيم في فن السياسة من قبيل المجاز، والعودة الى بحث مفهوم ميكافيلي حول الامير، حيث أشار الى أنه “لا بد لرئيس دولة أو «الأمير» من التمييز بين عدة معان: فقد يكون رئيس حكومة، غير أنه قد يكون أيضا قائدا سياسيا، ھدفه إخضاع دوله أو تأسيس دولة من طراز جديد». ولا ينطلق غرامشي  في تناوله لمفهوم الامير الجديد من التأكيد على الدور الشخصي للأمير بل هو يعني الدور المهيمن للحزب السياسي والقوى الاجتماعية صاحبة التغيير السلمي المنشود .

ويرى غرامشي في مفهوم تبادل المواقع والهيمنة والأمير الجديد وفي معالجته لمفهوم الدولة أهمية التأكيد على الطابع الطبقي لمفهوم الدولة، وانتقد المثقفين الذين يعتبرون مهمة الدولة  تنحصر في تنظيم المجتمع حسب. وأشار الى ان هناك تقسيمات للدولة وهي الدولة الاخلاقية والدولة الثقافية، واعتبر المدرسة والمحاكم تقوم عبر التربية والعديد من الاجراءات والشروط  لفرض الهيمنة السياسية والثقافية للطبقات الحاكمة على الطبقات المحكومة في المجتمع .

 وقد شبه علاقة الدولة بالمجتمع وفق المعادلة الرياضية التالية: الدولة = المجتمع المدني  +المجتمع ألسياسي أي الھيمنة التي يحميھا درع القھر. ولھذا الرأي أھمية جوھرية في نظرية الدولة وإمكانية اضمحلالها وتلاشيها. ويرى أيضا ان المجتمع المدني يلعب دورا اساسيا في تلاشي عنصر الإكراه في الدولة تدريجيا، مع ظھور عناصر المجتمع المنظم.

ان غرامشي يربط اضمحلال الدول بالمفهوم الماركسي في تلاشي القهر الطبقي وتحقيق العدالة الاجتماعية وهو مرهون ايضا بمستوى التطور السياسي الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع المعني.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1. ملاحظات حول السياسية - القسم الثاني - أﻧﻄﻮﻧﻴﻮ ﻏﺮاﻣﺸﻲ ص 248 - موقع الحزب الشيوعي العراقي
  2. ص250 المصدر السابق
  3. ص 252 المصدر السابق
  4. ص269 المصدر السابق
عرض مقالات: