اخر الاخبار

في السادس من آب أحيا اليابانيون الذكرى 78 لجريمة إلقاء الولايات المتحدة قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما والتي راح ضحيتها أكثر من 140 ألف شخص فى هيروشيما و74 ألفا آخرين بعد ثلاثة أيام في ناجازاكي حين ألقت القوات الأمريكية قنبلتين ذريتين على المدينتين لتحسم تفوقها العسكري وتحطم المقاومة اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية..

بالتزامن مع  إحياء تلك الذكرى الأليمة يتابع الملايين في العالم عبر شاشات السينما تفاصيل حياة ” “يوليوس روبرت أوبنهايمر (1940 – 1967) أحد أهم علماء الفيزياء النظرية في القرن العشرين والملقب بـ “أبو القنبلة الذرية” وكان مديرا لمختبر لوس ألاموس أثناء الحرب العالمية الثانية والمسؤول عن مشروع مانهاتن، وهو مشروع البحث والتطوير الذي أنتج أول الأسلحة النووية ‏أثناء الحرب العالمية الثانية، جُند مع عدد كبير من العلماء للعمل في مشروع مانهاتن، وفي عام 1943 عُين مديرا لمختبر لوس ألاموس التابع للمشروع في نيومكسيكو، حيث كلف بتطوير أول الأسلحة النووية. لعبت قيادته وخبرته العلمية دورا أساسيا في نجاح المشروع. في 16 تموز 1945، كان حاضرا في اختبار “ترينيتي” للقنبلة الذرية الأولى.

هذه بعض الجوانب التاريخية التي تضمنتها السيرة الذاتية لعالم الفيزياء الشهير والتى انطلق منها المخرج الأمريكي ذو الأصول الإنجليزية كرستوفر نولان، الذى يعد واحدا من أهم صناع السينما المعاصرين، حيث قدم حتى الآن اثنى عشر فيلما روائيا طويلا حقق معظمها نجاحا كبيرا وتجاوزت إيراداتها 4 مليارات دولار وحصلت أعماله على سبع جوائز للأوسكار.

والآن يعرض أحدث أفلامه “أوبنهايمر” في دور العرض بمختلف دول العالم وقد حقق حتى الآن إيرادات تجاوزت 400 مليون دولار، وهو مقتبس من السيرة الذاتية لعالم الفيزياء الشهير.

يعتبر فيلم “اوبنهايمر” علامة مهمة في مسيرة المخرج نولان، وأيضا في التناول السينمائي للسير الذاتية والأحداث التاريخية حيث يرصد بشكل دقيق ومبهر مراحل الإعداد لصناعة القنبلة الذرية التي تم استخدامها لأول مرة في التاريخ خلال الحرب العالمية الثانية، حين قرر الأمريكان إلقاءها على اليابان التي كانت تقاوم وترفض الاستسلام رغم مصرع الزعيم النازي هتلر منتحرا في نيسان عام 1945.

قدم صناع الفيلم الذي بلغت تكلفة إنتاجه حوالى 100 مليون دولار صورة دقيقة وساحرة لحياة أوبنهايمر وللواقع السياسي الأمريكي وكيف كان يفكر صناع القرار في ذلك الوقت الحرج من تاريخ العالم وموقف عالم الفيزياء بعد ان شاهد كم الضحايا التي خلفتها القنبلة التي قاد زملاءه إلى صناعتها.

يظهر أوبنهايمر وقد بدى عليه التوتر والقلق من إحساس يطارده بخطورة انفراد الولايات المتحدة بامتلاك القنبلة وعبر عن ذلك من خلال مشهد شديد الروعة أبدع فيه نولان وتألق فيه الممثل كيليان مورفي الذى قدم شخصية أوبنهايمر باقتدار وكشف المشهد الذى ظهر خلاله عالم الفيزياء يلتقى بحشود من المواطنين الأمريكيين الذين جاءوا ليحتفلوا بنجاح اسقاط القنبلة على اليابان. كانت نظرات أوبنهايمر يختلط فيها الحزن بالقلق. وحين نظر إلى الجماهير تخيل وجوههم يتساقط الجلد من فوقها كما فعلت القنبلة بسكان هيروشيما وناغازاكى،  فقال في نبرة مرتبكة ومشاعر مختلطة: “سوف نتذكر هذا اليوم” وأضاف: “لكن أراهن أن اليابانيين لن يعجبهم هذا”.

لكن أوبنهايمر يتمالك نفسه سريعا ليتقمص دور البطل القومي قائلا: “فخور بما صنعناه وكنت آمل أن نستعمله ضد الألمان”، ليجد خياله يقوده إلى وجوه سقط الجلد من فوق عظامها وقدمه قد غاصت في بقايا جثة قد تفحمت من نيران القنبلة .

لم يستطع “أبو القنبلة الذرية” الإفصاح بوضوح عن موقفه المتحفظ وقلقه من نشوب سباق تسلح بين دول العالم سوى في لقائه بالرئيس الأمريكي روزفلت  الذى استقبله كي يحييه على ما قدمه لأمريكا من خدمة جليله ويسأله عن رؤيته للمستقبل ليُصدَم الرئيس الأمريكي بقول عالم الفيزياء بأنه يشعر بأن “يديه ملطختان بالدماء”.

سيطرت السخرية الممزوجة بالغضب على ملامح الرئيس وأخرج من جيبه منديله الخاص ملوحا به إلى أوبنهايمر، مشيرا أن يمسح يده …قائلا له : “ان الناس في هيروشيما ونجازاكى لن تهتم بك ولن تعرف من أنت ولا يهمها من الذى صنع القنبلة لكنها ستهتم أن تعرف من الذى ألقى القنبلة  ….. وانا الذي ألقيتها”. وأنهى الرئيس لقاءه مع العالم الفيزيائي موجها كلامه إلى معاونه الذى كان حاضرا: “لا تجعل هذا الجبان يدخل هنا مرة أخرى … لا أريد أن أراه”.

يكشف المشهد – اللقاء – عن علاقة الساسة في أمريكا بالعلماء وكيف يسعى رجال السياسة الى تطويع العلم لأغراضهم دون أي اعتبار لقيم إنسانية او أغراض العلم النبيلة. والواضح أن منهج فرض الهيمنة من جانب الساسة تجاه العلماء يمتد ليصل إلى محاولة السيطرة على رواد وصناع الفكر والفن والثقافة.

وبعد مدة ليست بعيدة تبين وجود من يتبعون الاتحاد السوفيتي داخل معسكر مانهاتن الذى شهد أعمال الإعداد للقنبلة لمدة ثلاث سنوات متصلة ومن ثم أصبح من الممكن أن تتمكن موسكو من امتلاك القنبلة، ثم جاء موقف أوبنهايمر المتحفظ من تصنيع القنبلة الهيدروجينية. كل ذلك ساهم في أن يواجه عالم الفيزياء هجوما عنيفا سواء من وسائل الإعلام أو من إدارة مانهاتن.

يواجه أوبنهايمر اتهامات بارتباطه بالحزب الشيوعي والعمالة للاتحاد السوفيتي وبالفعل يخضع للتحقيق. ويبدع نولان في تقديم مشاهد التحقيق المتلاحقة دون ملل، وقد استغرقت ما يقرب ساعة من وقت الفيلم الذي يمتد عرضه ثلاث ساعات ويتنقل مخرج الفيلم في مشاهد سريعة قوية تتابع بالألوان وبين الأبيض والأسود مع استخدام موسيقى تصويرية ملحمية تعتبر من أهم ما يميز الفيلم.

في محاولة لإثبات التهم حاول المحققون الربط بين العلاقة القديمة لزوجته  كاترين بالحزب الشيوعي وكذلك انخراط شقيقه فرانك في الحزب الشيوعي في وقت سابق.

ورغم نفى كاترين وجود أي صلة لها بالحزب الشيوعي إلا أن خصمه اللدود ستراوس يستغل ما يثار حول علاقة “أبو القنبلة الذرية” باليسار في جلسة استماع مخصصة لمحاكمته.

وخلال المحاكمة يخونه تيلر وشركاء آخرون وبالفعل يتم سحب التصريح الأمني الخاص به، وهذا يعنى سحب كل مميزاته المعنوية ووضعه الأدبي والوظيفي داخل الولايات المتحدة.

نحن أمام عمل ملحمي يكاد أن يكون متكاملا فنيا أجاد فيه فريق العمل بشكل مذهل وعلى رأسهم الممثلون مورفى الذى جسد أوبنهايمر، وروبرت جونيور الذى قدم أحد أهم أدواره في السينما حين جسد شخصية ستراو، خصم أوبنهايمر اللدود.

وسعى الفيلم للانتصار لعالم كبير قاد فريقه العلمي لصناعة القنبلة الذرية التي حصدت أرواح مئات الآلاف من البشر لكن سجل موقفا جريئا حين تحفظ على تطويرها وصناعة قنبلة هيدروجينية قد تتسبب في إبادة البشرية حين قال إن “القنبلة الذرية قد أصبحت سلاح ردع أما الهيدروجينية فسوف تكون سلاح إبادة”.

كشف الفيلم النقاب عن وجه السياسة الأمريكية القبيح وكيفية تعامل قادتها مع خصومهم وشكل علاقة صناع القرار بكل من يختلف معهم في الرأي. فرغم كل الادعاءات وكل المزاعم حول الديمقراطية والمجتمع الحر تبقى القدرة على التصفية المعنوية حاضرة في كل المراحل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“الأهالي” المصرية – 9 آب 2023

عرض مقالات: