اخر الاخبار

فجأة، أسعفني الأخ كاظم حبيب برسالة لا تتجاوز بضعة أسطر، من حرج شديد كدت الوقوع فيه، ومن تردد انتابني وأنا أراجع نفسي في كيفية المشاركة باحتفالية (ماسية) تقيمها وزارة الثقافة لإقليم كردستان، منتصف حزيران من عام 2010 للدكتور كاظم لمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين.

لقد أيقظت فيَ الرسالة تلك بمدلولها وإيجازها، مئات الذكريات عن حقبة زمنية عشناها معا، لقد عادت بي إلى سنوات السبعينات، عندما كنا تحت سقف لبيت واحد نتشاطر فيه العيش والأحلام. لقد قدم لي كاظم حبيب اختصاراً لكل ذلك الزمن، ووفر لي جهداً وعناءً في البحث عن موضوع... هو محوره، وبطله، إذ كنا ننظر بانبهار ودهشة لتلك الفتوة والحيوية لشخصية تتدفق شباباً وعطاءً، لاتكلّ في التنقل بين المجلس الزراعي الأعلى، وأروقة (طريق الشعب)، و (الثقافة الجديدة)، والمهام الحزبية، وإلقاء المحاضرات على طلبة الجامعة المستنصرية. لتقدم نموذجاً متميزاً وفريداً، في العمل والمثابرة، والصبر، ونكران الذات، والتواضع، وأكبر من ذلك، نشر المحبة للناس والوطن، كنا مجموعة من الشباب، بدأنا خطواتنا الأولى في عالم الصحافة الفسيح. واغتنت تجاربنا المتواضعة بما تعلمناه من أولئك (المعلمين) الكبار. إذ كانوا فرسان التجربة التي أضحت علامة متميزة في العمل الصحفي والثقافي. على الرغم من قصرها ووأدها من قبل القوى السوداء. فذهب صناعها الماهرون، لكن إلى أين؟..إلى الغربة، والموت، والزنزانات. والاختباء...!!لم تكن رسالة حبيب البليغة تحمل شيئا من الأسرار، لأننا اعتدنا الكتابة أحدنا للآخر، بين الحين والحين، برسائل تقتصر على السلام والسؤال عن الصحة والاطمئنان عليها. نستعيد الماضي بتفاؤل أو بدونه، ونتحدث عن الحاضر والمستقبل بترقب وحذر..! إنها رسالة كالدرس.. فصيحة وواضحة وشجاعة، شحذت ذاكرتي لأستعيد تفاصيل جلسة على طاولة غداء في أحد مطاعم أربيل ضمت الصديقين الدكتور كمال مظهر، والدكتور تيسير الألوسي، كنت قبالة الدكتور كاظم، حين سألني بنبرة خجولة عن حال أحد الأصدقاء، وأثناءها مدّ يده بحذر شديد إلى جيبه وبحرصٍ متناهٍ بأن لا يراه أحد من الحضور، وأودع لدي مبلغاً من المال ملتمساً إيصاله إلى هذا الصديق. لم أخف فضولي في السؤال عن معنى ذلك، فأجاب بكل تواضع: ان لديه شعوراً بالتقصير إزاء بعض الشخصيات التي ظلت وفية لمبادئها وحريصة على مواقفها الوطنية. فهذا الإنسان كما يرى، نموذجا من هؤلاء، يستحق الرعاية والإهتمام، مثلما يدعو للاعتزاز كمثال للإنسان العراقي المكافح والثابت الذي لم يغادر انتماءه في أقسى الظروف وأعتى المحن. ربما لا يشكل هذا الموقف مأثرة كبرى تسجل لصالح الدكتور كاظم من وجهة نظره. ومن المؤكد إنني أجهل مواقف أخرى له مع آخرين تحمل نفس المعنى، لكنني لا أجهل حتماً مقدار النبل والوفاء الذي يحمله حبيب، وبلا حدود. ليس لهذا الصديق لوحده فحسب، بل لكل العراقيين من أمثالهَ. أنا متأكد ان شعوراً غمر الدكتور كاظم بالسعادة. وامتلأت نفسه بالرضا والارتياح. تعادل كل ما قرأه من نظريات وعلوم وتاريخ، واقتصاد، وفلسفة. هي ذي اللحظة التي تترجم كل المعارف إلى فعل إنساني حقيقي أصيل، والى ناتج اجتماعي وأخلاقي بعيداً عن الزيف وكذب الشعارات. !!على وفق هذه المنظومة الأخلاقية التي تشكل عقله، فكراً وسلوكاَ، وتنظّم علاقاته بالعالم. وتحدد فهمه ورؤاه للإنسان، حتى في أسوا حالاته. انه يجد نفسه مضطراً للالتماس من أحد أصدقائه للتدخل في معالجة إشكالية تعيد لأهله حقوقهم التي أغتصبها النظام السابق وأزلامه. وهو يترقب وينتظر، شفيعه بذلك، النوايا الطيبة. والزاد والملح، قاعات الدرس المشتركة، الحيطان المتلاصقة في أحياء مدينته، رائحة البخور المنبعثة من مراقد الأئمة عليهم السلام، طقوس العزاء. المواكب. التي تطالب بالحرية... و... و... كل ذلك الإرث الطيب والجميل كفيل أن يحقق أحلام تلك الشريحة المظلومة والمعذورة من أهله.. وهي أحلام لا تتعدى، سوى العودة إلى بيوتهم التي شيدوها في سنوات الحرمان والكد والأحزان..كان نصيبي من هذا السعي إنني أشرت إليه بمناشدة بعض أصدقائه، وهم كثر، يشغلون مواقع مهمة في مفاصل الحكومة. فاكتفى برد موجز، انه لا يحتاج كل ذلك. قرأت في الرد شعوراً بالمرارة والخيبة..

  كاظم حبيب أحد رموزنا الوطنية والثقافية، أثرى الساح الثقافي بعدد كثير من الأبحاث والدراسات، وأغنى المكتبة العربية بعشرات المؤلفات في مجال تخصصه، والقضايا الوطنية، وله سجل نضالي مشرّف في الدفاع عن قضايا شعبه، وهو رمز سعى إلى التجديد، في الفكر والمعرفة، وحاول ان يكون صوتاً يحمل خصوصية تفكيره ومنهجه، وراهن على الحداثة والتغيير، سلوكاً وممارسة، وصاغ من قسوة الظروف الاقتصادية والسياسية، آلية الدفاع عنها.

يلزمنا صوتك، يا كاظم (الحبيب)، وروحك الشابّة، تذوقت العذاب والألم، وعشت سنوات صعبة، عرفت القهر، لكن ذلك لم يثنيك عن العمل المثابر الدؤوب، فرحلت مطمئناً، فسلاماً لك ايها الصديق.

عرض مقالات: