اخر الاخبار

عندما كان ضجيج (الجبهة الوطنية) يعلو في الخارج أيام السبعينات من القرن الماضي، يبدأ (قسم حياة الشعب) في (طريق الشعب) يومه في المشي عكس التيار، إذ يزخر بعالمه الخاص، ألا وهو كشف معاناة الناس اليومية من سكن، ودخل، ونقل، وصحة، وخدمات بلدية، ومظالم العمل وغيرها، أي كل ما يثير حفيظة (الحلفاء) وتذمر بعض الرفاق المراهنين على تطور الجبهة.

وكان القسم تثقله ردود الجهات الإعلامية في مؤسسات الدولة، لأنها ترى فيه خصما، عنيدا، مستمرا في كشف أكاذيبها وقصورها، إلى حد أن محافظ بابل قال ذات مرة في أحد مجالسه الخاصة (إن الشيوعيين (مع شتائم بذيئة) ينشرون مطالب قرى في المحافظة أنا لا أعرفها شخصيا).

 كان القسم، برئاسة زهير الجزائري، ورشة عمل صاخبة، وأكثر أقسام الجريدة  حركة، يرتاده الكثير من الزائرين، حتى يبدو كأنه مسرح  لعرض واحد، ولكنه يتكرر مع أحداث جديدة، يتوزع الممثلون فيه، فهناك فاضل السلطاني الصامت، وجمعة ياسين المنفعل دائما، وهو يحرر المطالب والردود في باب باختصار، والفقيد خليل الأسدي وهو غارق في همومه، وفاطمة المحسن وهي تناقش زهير عن عمل صفحة المرأة، ويكبر العدد وينضم إلى القسم الشهيد خليل المعاضيدي بعد أن ترك عمله في التدريس، إثر زيادة الملاحقات عليه في بعقوبة، والشهيد نعيم عليوي (أبو ربيع)، والفقيد عريان سيد خلف، بالإضافة إلى زائرنا الدائم صاحب الحقيبة الكبيرة الفقيد حمدي العاني (أبو حمادة) الذي كان يوزع علينا الكثير من القصاصات ويعطي منها إلى(زهير) ويمضي، كما أن هنالك عددا آخر من المتطوعين يرفدون عمل القسم الذي يشرف على صفحات كثيرة وهي: حياة المعلمين، والطلبة والشباب، والمهنية، والمرأة.

العمل في (حياة الشعب) كان متعددا، ينجزه الرفاق المحررون ويتعاون معهم الرفاق المسؤولون على الصفحات المرتبطة بالقسم (وهم غير متفرغين للعمل الصحفي)، والآخر من إنجاز المكاتب الصحفية في المحافظات في عموم العراق، وهنالك خطة عمل يضعها القسم بالتعاون مع سكرتارية التحرير وممثلي المكاتب. وأمتاز العمل رغم كثرة المشاغل، بدقته، فلم نر أي مكتب صحفي يخل بالتزاماته، كما أن العاملين في القسم، وخصوصا في التحقيقات، كانوا ينهلون المعلومات من أرشيف الجريدة الذي تشرف عليه سهام الظاهر.

 ويرفدهم المختصون بمعطيات كثيرة تساعدهم في صياغة الأسئلة، فحين يذهب الصحفي منا، يكون ذا قدرة في الحوار حين يقابل المسؤولين الحكوميين.

وكان إجراء التحقيق الصحفي ليس سهلا، فهناك العديد من المضايقات من سلطة البعث، والكثير من المسؤولين الحكوميين كانوا لا يتجاوبون معنا، كما أن البعض منهم يدخلك في حرج، كما حدث في مقابلتي حول أزمة السكن مع خير الله طلفاح (والي بغداد) الذي كنت لا أعرفه بالشكل، ولم أعرف أنه مسؤول أيضا عن إحدى الجمعيات التعاونية للإسكان.. فحين سألته عن رأيه بالسكن العمودي قال لي:

(إبني هذا في روسيا الشيوعيه يمشي، في أوروبا الرأسمالية يمشي، عدنا ما يمشي)

وحين سألته السبب قال:

- (ولد وبنيه صعدوا في المصعد مد يده... أراد.. إحنه شنگـول)!

 كما أن إدارة الجريدة بقيادة المرحوم نوزاد نوري، كانت، أحيانا، غير متعاونة معنا، فهي لا ترى في طلبنا السيارة لإجراء تحقيق أو مهمة صحفية، بالشيء المهم، فيتحمل الصحفي معاناة جولته في النقل العام مع المصور (قتيبة الجنابي)، والشيء نفسه يقال عن تزويدنا بالورق أو الأقلام.

وذات مرة، طلب زهير بعد أن وُلدت أبنته ميس، من (نوزاد) شراء عربة للأطفال مركونة بقسم البدالة، كانت هدية من “الأورزدي باك” للجريدة رفض الطلب بحجة أنها ملكية الحزب، فقال له زهير ساخرا:

 (من يضع الحزب فيها عزيز محمد أم زكي خيري)!

رغم العلاقات الرفاقية الحلوة، فأن مشاكل العمل لا تنتهي، ويصبح رئيس القسم زهير الجزائري الذي نتحمل (تقريعاته) الدائمة لهذا الخطأ أو ذاك، مصدتنا أمام سكرتارية التحرير وهيئة التحرير، فعصبية الفقيد عبد الحميد بخش (أبو زكي) من هيئة التحرير المشرف على القسم، كانت لا تطاق، رغم طيبته وتواضعه، إذ كان أحيانا يمزق الأوراق قبل أن يطلب من زهير إعادة كتابتها. مرة طلب استدعائي، فقال لي زهير بما معناه جاءك الموت يا تارك الصلاة! فأنا أعرف نفسي كنت مبتدئا بالعمل الصحفي، وأخطائي كثيرة، واعتقدت أن (زهير) حين بعث بمادتي لم يراجعها بعدي، وهذه المرة يكون التقريع لي مباشرة.

وحين رجعت مبتسما، فرحا، لم يصدق بما أنا عليه، فقال لي ماذا حدث، قلت ضاحكا: لقد دعاني لأكل العنب معه!

- فقط!

- كنت أتوقع مثلك (غسل وتشحيم) ولكن الرجل تكلم معي بطيب خاطر، وتحدث معي بأمور عامة لا علاقة لها بالعمل الصحفي، وتمكنت من أكل حبات العنب بهدوء معه! واكتشفت الوجه الآخر ل (أبو زكي). 

 وحين تدفع الصفحات ويحل الهدوء، يبدأ موسم الضحك، حيث يبدأ زهير بذكر (القفشات) التي مر بها، وحين تصفو روحه يغني ونحن ننتظر يوما آخر بهمة ونشاط، رغم ضنك العيش وقلة المداخيل وخاصة للمتزوجين منا المحملين بهموم الإيجار وطلبات الأطفال، إذ كنا عزابا ومتزوجين نتجاوز هذه المشكلة بالاستدانة من رفاقنا المتطوعين الذين يعملون في دوائر الحكومة، فكل بداية من الأسبوع الثاني من الشهر، نبقى في القسم بانتظار من يكون (ضحية) لاستدانتنا المزمنة. وأحيانا نذهب إلى الدائرة المالية في المطبعة (دار الرواد)، لطلب السلفة، وعلينا تحمل (بيروقراطية) رهيبة من (رفاق مسلكيين)، تبدأ بتقديم المستمسكات المطلوبة، وهي مرور أكثر من عام على عملك، وأن يكون لك كفيل له بالخدمة عام أيضا، وفي حالة الموافقة، وتدخل النقود في جيبك، عليك أن تبعث بنصفها إلى الدائنين، والقسم الآخر هو أن ترمم مظهرك بشراء قميص أو سروال، وربما تدلل نفسك بعض الشيء، وترتاح إلى حين من الاستدانة!  وربما تأكل في مطعم محترم، إذ كنا نتناول غداءنا في الجريدة، مقابل مئة فلس، وهو متنوع وجيد وخصوصا حين تكرمنا بعض العوائل الموسرة من أصدقاء الحزب بطبخة لم نحلم بها، ولكن في بعض الأحيان لظروف لا أعرفها يجري إطعامنا باستمرار بالفاصوليا مع التمن والتي وصفها زهير ساخرا إنها ضمن خطة العمل الحزبي وهي موضوعة في خزان كبير يجري فتح (حنفيته) كل يوم للرفاق!

وكان ملتقى الغداء حيويا ولطيفا حين يجتمع أكثر المحررين والشغيلة، ونسمع نكات مخلص خليل حول عيادة الصديد محافظ السماوة آنذاك، ومقالب حضيري مع داخل حسن.

 تفرق الجمع، بعد الهجمة التي طالت الحزب منذ منتصف 1978، وأغلقت الجريدة في بداية نيسان (أبريل) 1979، فتباعدت المسافات بين الرفاق وغيبت وجوه، ولكن يبقى طعم تلك الأيام جميلا رغم كل مراراتها وقسوتها، وتمثل تجربة حياة مناضلين تحدوا السلطة رغم اغراءاتها وقمعها لأنهم نذروا أنفسهم للوقوف مع شعبهم ومطالبه العادلة!

عرض مقالات: