اخر الاخبار

حين تغلق الأبواب ويهم الناس بالنوم، يبدأ عمل خفافيش وثعالب الظلام، يتوّزعون في الشوارع والأزقة يراقبون هدوء البيوت وحركة الشارع ليقلقوا راحة الناس، ثم بعد المداهمة يدور حوار قصير، يتضمن كلمات قليلة محتواه «لدينا استفسار بسيط جداً لمدة خمس دقائق فقط» ولكن تطول الخمس دقائق إلى ساعات، أيام وسنوات لتنتهي في دهاليز وقبور مظلمة، أو ما يسمى بالاختفاء القسري.

الأسباب كثيرة ومتعددة، إما مثقف متنوّر وبعيد عن براثن الغيب والجهل، ويقرأ كثيراً، ويسمع الموسيقى، أو يؤمن بالحياة الحرة، أو يطمح بعدالة توفير الخبز والهناء، والراحة للجميع وبالتساوي، او لأنه ينبذ القسوة والتسلّط، أو لأنه يحب بلده ويخاف عليه، كل هذه الأسباب تؤدي إلى الاختفاء القسري والموت في زمن البعث الفاشي.

وهنا نتساءل هل من يحمل مبدأ وفكرا متحرّرا ويحب الناس كما يحب لنفسه يجب ان يموت اغتيالا، أو يُسجن أو يعدم، يكبر الأبناء ويقتلون بنفس طريقة آبائهم، ولدينا أمثلة كثيرة، اي موت وقتل ممنهج هذا! الذي يمارس ضد الشيوعيين العراقيين، هكذا يعذّبون حد الموت أو تحت أعواد المشانق، أو ترمى جثثهم في أرض الله الواسعة، أو يحشرون في أنابيب حد الموت، او ترض أجسادهم الطاهرة تحت حادلات، يقتلون وهم أحياء ليس لسبب وجيه فقط لأنهم يحبون ويدافعون عن ناسهم وبلدهم!

هل كان يدور في خلد تلك الأمهات الحنونات وهنّ يربّين أولادهن بدموع العين، وسهر الليالي والشابات الجميلات وهن يعشن حياة مستقرة، هانئة مع أزواجهن، وأطفالهن ان يفكرن ولو مجرد تفكير أن يعشن وحيدات ذابلات بعد فقدان أحبتهن بهذه الطريقة الوحشية وتسلب سعادتهن من بين أيديهن.

إذا أردت أن أكتب عن الشهداء الشيوعيين المقرّبين لعائلتنا، أقول فقدنا نخبة من الأخوة وأولاد العم والأصدقاء، كلهم جميلون، طيبون، مثقفون، أولاد عوائل محترمة، لديهم تحصيل دراسي يعملون بإخلاص لا حدود له، وكلهم رحلوا لنفس تلك الأسباب تربطهم علاقات عائلية محبّبة، ونضالات مشتركة طويلة، ينحدرون من مناطق متقاربة أرياف وأقضية ونواح.

اسماؤهم محفورة في وجداننا، وذاكرتنا، عاشوا معنا أيام حلوة، ففي كل يوم خميس يلتمّون في بيتنا في ريف العمادية الجميل، أخوتي وأولاد العم وأصدقائهم يتسامرون ويتناقشون حول الأوضاع، يغنّون بفرح يلعبون الورق، يتقاسمون الرغيف، يفترشون الحديقة وينامون بين الورود، نصحو يوم الجمعة على أصوات قهقهاتهم ومرحهم وكأن في بيتنا عرس.

كلهم رحلوا الواحد تلو الآخر فقدنا وجوههم الطيبة، وشخصياتهم وحضورهم الذي لا يعوّض، كانت أول صدمة للعائلة هو اغتيال أبن العم المهندس حسن عبد الهادي فرحان أبو سلام في عشيّة ليلة عيد الحزب ٣١ آذار ١٩٨٠ قتله المجرمون في كمين ورموه في أحد المبازل القريب من بيتنا.

وبعد انفراط الجبهة فقدنا أصدقاء كثر، منهم من عثرت له عائلته على قبر ومنهم من لم يعثر له على شاخص، أذكر منهم علي حسين الصكر ابو لظى، محمد النعمان ابو نجاح، محمد حمزة.

ثم اختفى أبناؤنا نعم ابناؤنا فقد اختفوا سنوات طويلة في بيتنا تحت الأرض لا يرون شمساً ولا ضوء نهار، ولا وجوه بشر، ولا الشجر لمدة ثماني سنوات.

اختفى معهم رفاق أعزاء أصبحوا إخوانا لنا، عشنا معهم نفس المعاناة، منهم كاظم عبيد أبو رهيب، وسعيد الصفار أبو حسن، اعتقلوا عام ١٩٨٤-١٩٨٥ وأعدموا من قبل النظام الدكتاتوري، وأستشهد معهم الكثير من رفاقنا.

في عام ١٩٩١ بعد انتفاضة آذار الباسلة شنّ الجيش وقوات الأمن حملة شرسة ضد الناس اعتقلوا الآلاف من أبناء بابل من شارك بالانتفاضة، أو من لم يشترك تم اعتقاله.

فقدنا الكثير من الأحبة منهم أخواني أركان وأنور، وحسين أبو ذكرى، الذي لا تفارقه الضحكة والنكتة، وسيد عبد الامير يحيى ابو سلام.

وفي عام ١٩٩٤ تم اعتقال وإعدام زوج اختي الشجاع حسن حمد الله وإخوانه الأبطال عباس أبو حامد، محمد، وظافر زهير ناهي الشاب الجميل البطل، وكأن علينا ضريبة عذاب متواصل ندفعها على مراحل، هي فقدان أحبتنا وذهابهم من غير رجعة.

شهداؤنا ننحني لوجوهكم الطيبة، وتاريخكم الوضّاء، وحياتكم التي لم تكتمل.. ننحني لبطولاتكم وبسالتكم ننثر لكم الورود، ونردد مع الشاعر مظفر النواب:

وحگ الشط الاحمر

والليالي الغبرة يگويعه

أموتن وانت حدر العين تتونسين

آفه يرجال طين عراگنه الطيبين

والمراجل بيكم اتمست مراجل

كلفه يمعودين.

عرض مقالات: