اخر الاخبار

رحلت قبل أيام واحدة من أشجع مناضلات بلادنا وأكثرهن تضحية وإيثارا... الأم المناضلة فوزية يوسف “ام انتشال”.

في أعوام الثمانينات والتسعينات ظن البعث الحاكم وأجهزته القمعية أنهم استطاعوا تحييد المناضلين الشيوعيين القدامى، غير أن الكثير من هؤلاء المناضلين كانوا يتواصلون بينهم اجتماعيا، سرا وعلانية، وشكلوا شبكات سرية لدعم نضال الشيوعيين الذين بقوا في بغداد او الذين قدموا من كردستان لمواصلة النضال ضد الدكتاتورية وأيضا لمساعدة عوائل الشهداء والسجناء الشيوعيين.

هذه الكوكبة من المناضلين القدامى قدموا مساعدات ودعما أنقذ حياة العديد من المناضلين ودعم كفاحهم ضد الديكتاتورية السافرة.

من بين هؤلاء المناضلين القدامى الذين لم يبخلوا في مساعدتنا طيلة أعوام النضال السري، المناضلة فوزية يوسف أم الصديق العزيز انتشال هادي كاظم التميمي التي رحلت عن عالمنا قبل أيام.

وإذا أردت التلخيص فقد عملت الفقيدة أم انتشال على:

  • اخفاء مناضلات شيوعيات مطلوبات لأجهزة الأمن ومطاردات، في بيتها بالكرادة ومساعدتهن ماديا ومعنويا.
  • مساعدة أرامل الشهداء وزوجات السجناء والمغيبين الشيوعيين، بتدبير فرص عمل لهن توفر مصدر عيش يسد حاجات هذه العوائل ويحفظ كرامتها.
  • إعادة الصلات الحزبية لكثير من المقطوعين والمقطوعات عن الحزب.

في الظاهر تبدو تلك الشبكات كأنها مجرد علاقات اجتماعية قديمة تتواصل انسانيا بين حين وآخر، لكن واقع الحال ما كان لنا ان نواصل نضالنا بدونهم، كانوا جذورنا الاجتماعية ومصادر دعم وعون لا غنى عنها.

 بين ما أعرفه في تلك الأعوام، كان هناك تعاون وتنسيق وثيق بين ثلاثة من قدامى المناضلين العمة الزكية، زكيه خليفة، وتوفيق ناجي الخياط و”أم انتشال” في دعمنا... وجميعهم رحلوا عن عالمنا. وسأورد مثالين ملموسين.

 في أول التسعينات عرفت أن أخي توفيق يساعد في إدارة معمل صغير أو ورشة خياطة في الكرادة بحكم خبرته في الخياطة، يذهب صباحا إلى هذا المعمل يهيئ وجبات الخياطة ويوجه العمل ثم يذهب إلى عمله في محله.

كنت على صلة منتظمة بتوفيق سألته عن هذا المعمل أو هذه الورشة، استشاط غضبا من سؤالي وأنكر وجود أي شيء من هذا القبيل وطلب مني بحزم عدم الحديث مع أي كان في هذا الأمر. وبالمختصر نهرني قائلا (خلونا نشتغل) أو (دعونا نعمل).

 لاحقا وفي عام 98 التقيت كثيرا في دمشق بالأخت الكريمة نضال هادي كاظم عمة العزيز انتشال وأرملة شهيد الحزب رفيق حسن الذي اعتقل واستشهد بدأيه الثمانينات ولديها ثلاثة أبناء، ولدان وبنت.

 سألتها كيف تدبرت أمر معيشتها هي وابناؤها طيلة تلك الأعوام العصيبة وبينها أعوام الحصار، قالت لي بمساعدة “أم انتشال وعمة زكية وتوفيق” ومنها فهمت انه كانت هناك ورشة أو معمل صغير للخياطة تديره العمة زكية وأم انتشال وتوفيق يعمل فيه عاملات كلهن زوجات سجناء وشهداء شيوعيين، لتوفير مورد عيش كريم لهن ولعوائلهن.

 ومثال آخر، عام 90 حدثتني الصديقة العزيزة نوال كاظم التي نظم توفيق إعادة صلتها بالحزب إثر لجوئها اليه بعد انقطاع وظروف قاسية عاشتها، ولم يكن عندها مكان يأويها، قالت أخذني فورا إلى ام انتشال وبقيت في بيتها لحين تدبير مكان آمن.

 وفي تلك الظروف كان إيواء مناضل شيوعي مطلوب للسلطات يعني إبادة العائلة التي تأويه، فيما لو كشفت الأجهزة الأمنية الأمر وثمة عوائل كاملة جرى اعتقالها وتغييبها وحتى إعدامها لهذا السبب.

 بمعنى أن الراحلة الحبيبة “ام انتشال” فدتنا بحياتها وحياة من معها في العائلة حين أخفت مناضلات في بيتها.

 هل ثمة موقف أكثر سموا في التضحية والنبل من هذا؟

 ولكي لا أطيل، اكتفي بهاتين الواقعتين في ظروف بالغة القسوة والتعقيد من نضال الشيوعيين في بغداد، وفي ظل نظام سلك أبشع المسالك في تصفية معارضيه.

قبل هذا بكثير

طيلة الحياة العائلية للفقيدة مع زوجها المناضل الشيوعي الراحل هادي كاظم التميمي كان بيتها بيتا حزبيا.

وهادي كاظم التميمي، وحسب “الموسوعة السرية الخاصة” التي اصدرتها مديرية التحقيقات الجنائية عام 1949 كان مسؤول تنظيم الحزب في الحلة عام 49 واعتقل مرتين عقب اعدام الرفيق فهد اذ كان من بين الكوادر التي نشطت في الإبقاء على حزب فهد وثمة صفحات عنه في تلك الموسوعة.  و “أم انتشال” من مؤسسات رابطة المرأة العراقية ومن الرعيل الاول للمناضلات الشيوعيات، وفي الخمسينات كان يختفي في بيتهم الشهيد جمال الحيدري بل كان بيته الحزبي بعد هروبه من السجن عام 1953.

 مره سألت العزيز انتشال عن اسمه الفريد قال إن ولادته كانت عام 53 مع ولادة انشقاق راية الشغيلة وكان الشهيد الحيدري مختفيا في بيتهم، ولأنهم وصفوا الانشقاق بأنه انتشال الحزب من أوضاعه فقد سمي انتشال تيمنا بالحركة الإنتشالية للحزب، أو راية الشغيلة، التي كان يقودها خارج السجن الشهيد الحيدري، وكان من أقرب معاونيه هادي كاظم التميمي.

منذ الاربعينات والخمسينات وأم انتشال مناضلة مقدامة ومضحية، طوردت وسجنت وعذبت، وعاشت كل ظروف النضال الصعبة لأكثر من سبعين عاما.

 أم انتشال وأمثالها من المناضلات والمناضلين هم من أبقوا راية النضال الشيوعي خفاقه في بلادنا.

للصديق العزيز انتشال ولشقيقاته الطيبات أحر التعازي والمواساة القلبية لهذا الفقدان الأليم.

 فوزية يوسف - أم انتشال مفخرة كبيرة ليس لأبنائها وبناتها فحسب بل لكل المناضلين الشيوعيين والوطنيين.

ملاحظة: انا لم استأذن الصديق الطيب انتشال في نشر ما كتبته لأني اشعر ان “أم انتشال” هي أمنا جميعا.

عرض مقالات: