اخر الاخبار

قراءة (دفتر المنفى) لكامل شياع لا تعد نهائية، هنا تحفيز ورغبة لغذاء عقلي لايمكن الاستغناء عنه، هم القارئ المتلقي أن يقيم علاقة بينه وبين الكاتب الذي أيقظ فيه روح” التحديق والتساؤل”*

دفتر المنفى بين النزل والبيت، الاصدار الأخير لكامل شياع، عن دار المدى عام 2022، إعداد وتقديم فيصل عبد الله، الذي تشير مقدمته الى أن عنوان الكتاب، هو ( جدلية النزل والبيت)، وباعتقادي انها الصيغة الأدلّ والأعمق لمضمون الكتاب.

دفتر المنفى كما يشير فيصل، بمنزلة وديعة ظلّت تشاغله طويلاً بجدوى نشرها، وضرورة تتبع يوميات قامة فكرية متفردة، وإرث كاتب ترك بصمته، وأثره العميق في الفكر الإنساني، ويضيف عبد الله بالقول : ان الكتاب يعد درساً لأجيال قادمة علّها تجدد رهاناتها التنويرية، وما يمكن أن تفضي اليه من آفاق نحو حاضرها ومستقبلها، وعن طريق تتبع سيرة عصامي اشتغل طويلاً على نفسه، وعلى رحابة الأفكار، ورفعة الشأن العام، وعاد الى مسقط رأسه بغداد، المدينة الأحب، في وضع استثنائي بكل المقاييس، ووسط عتمة تجهيل متعمد فيه.

بعد عقد ونصف من اغتياله، أجد من الانصاف، والوفاء، ان أعيد التحريض للكشف عن ملابسات وظروف اغتياله، ونلحّ بالسؤال: بأي طيش وغباء أزالت تلك الرصاصات القاتلة كل هذا الثراء؟ اليوم وبعد هذه السنوات، هو راقد في العدم الأبدي، هناك في الثرى، تسود اللامبالاة عقولنا، وسلوكنا إزاء ماحصل وسيحصل، هذه المسافة الكبيرة الفاصلة بين فعل القاتل من جهة، ولامبالاة المتفرج، هي ذات المسافة بين كوابيس القتل الأسود، وبين انهيار قضية كانت تعني له الحياة وليس الموت، هذه الحياة، كما تنبأ، ينبغي أن لا تكون بالضرورة آمنة، شرط أن تشبع الرغبة في الفعل والوجود والانغمار.

لم يكن كامل مكترثاً بالموت، لقد قدم الى العراق كأي فدائي يسعى الى حتفه، وثوابه الموعود في الجنة، ثمة معنى لايقل فصاحة واشراقاً عبّرت عنه هذه العودة المتأسية، هذا المعنى يتأتى من قيمة استقبال المتلقين لنصوص كامل، في يومياته، ودفاتره، واحتفاظ هذه النصوص بأثرها الحي فيهم، وكان المعنى يتأتى أيضاً من أهمية اختيار العودة.

هل يشكل الرجوع الى دفاتر كامل صورة من صور استئناف الحياة معه عبر هذه النصوص؟  أم هي شكل من الكتابة  لتحدي الموت واختراقه بالكلمات والأفكار، والابداع فيها؟

ان قدرة كامل شياع تتجلى في هذا الانفتاح الواسع على الخبرة والكفاءة، والابداع الذي قطع فيه شوطاً بعيداً في منهجه، وكيانه الفكري، باسلوب فيه طابع العصر، وجاذبية الجديد، ولم يكتف بتلك الامكانات، بل حملت رسائله الى شقيقه فيصل، “وهما في المنفى معا”، مضمونها الانساني الجميل، ومعانيها الرائعة في مخاطبة الاخ، والصديق، وتنوع مادتها وموضوعاتها،

القسم الاكبر من الرسائل خصّ فيها فيصل، ثم رسائله الى ابنه الياس المقيم في بلجيكا، تليها الرسائل الموجهة الى الفنان التشكيلي علي عسّاف، وأخرى الى الفنان والناقد التشكيلي موسى الخميسي، وأخيراً الرسائل الموجهة الى شهاب الدوري استاذ الأدب الإنگليزي المقارن في إحدى الجامعات الفرنسية، وكانت خاتمة الكتاب مجموعة من كتابات كامل شياع المنشورة في الصحافة، والمواقع الألكترونية.

في الرسائل لغة تقاوم الضعف، يكفيه بعض حنان، كلمة حب تورق كل عمره، تكفيه كلمة لطف من الياس، ابنه، يحتاجها في فرحه، وفي شجنه، كانت كل كلمة تصدر عنه، تعني حلماً يعتاش عليه، ويؤرقه في آن، كانت تأتيه رسائل من الأهل مثل أنهار من الحنان يتعامل معها، وان جنّ الليل، من ذا يؤنسه، من يطفئ نيرانه، من يسأل عنه، أو من يغسل أحزانه؟ لو أني أقدر أنساك يا كامل؟ أنا أقول، لقد هيجت دفاترك مواجعي!

تخيرت منفاك، وأشهد أنك كنت نبوءة المنفيين، كانت رسائلك شجية، مفعمة بالعاطفة الممتزجة بالمعارف المعاصرة، وروح الصداقة والالفة، فما نقضت العهد مرة،  لغتك كانت ثرية متنوعة بلغة الموسيقى، والسينما، والتشكيل، والشعر، والرواية، واللغات، والفلسفة، والاجتماع، من أين لك كل هذا الثراء؟ وانت الطالب الذي تخرجت في ثانوية بيوت الامة المسائية في الكاظمية**، لم تكن بعد قد تفتحت موهبتك، وتوهجت أفكارك، أو نضجت تجربتك السياسية، لكنك فجّرت كل طاقاتك في المنفى، وعبّرت عن مخزونك المعرفي مرة واحدة، وذهبت حتى النهاية، بل اجتزت الفضاء المستحيل وحيداً حالماً ومبتسماً في حقول تجارب اليوتوبيا وسط الخراب،

عودة متأنية لهذه الرسائل التي بذل فيها فيصل جهداً استثثنائياً يستحق عليه التقدير والاعجاب، فضلاً عن الوقائع الخاصة جداً التي تفضّل بها عليّ مشكوراً، وهي تكشف لأول مرة حقائق جديدة في سيرة كامل الذاتية، منذ سنوات نشأته الاولى.

وعن طريق تلك الرسائل يكتشف القارئ ان كامل شياع كان يواجه نفسه وظروفه، ويتحول الى مبدع حقيقي، لايدعه المنفى يتكاسل، ولا الحاجة عن أداء مهمته، من دون أن يصرف هم العيش على هم بلوغ غاياته، واهدافه في مواصلة الدراسة، والعمل في آن، الرسائل الواردة في الكتاب جاءت من طرف واحد، لم تتضمن ردود واجابات المرسل اليهم،  وأظن ان هذا الاجراء جاء متعمداً من قبل الشقيق المعدّ، في محاولة منه للتركيز على ماصدر عن كامل، بما يغني ذهن القارىء ويثريه، كي لايذهب بعيداً، مشتتاً في تفاصيل وزوايا لا شأن له فيها، والملاحظة الاخرى الجديرة بالاهتمام من قبل السيد فيصل، هي الأخذ بنظر الاعتبار، ان رسائل كامل لم تقتصر على هذه الأسماء فحسب، بل باعتقادي ان عدداً غير قليل من أصدقاء كامل، كانوا على تواصل مستمر معه، عبر تبادل الرسائل أو الصور، لذا أدعوه مخلصاً لمناشدة هؤلاء في دعم هذا المشروع المعرفي، التوثيقي، والتفاعل معه بجدية واهتمام، اذ لم يعد كامل اسماً عابراً في ذاكرة الثقافة العراقية، بل تجربة تستحق أن نعيد اليها ألقها وتوهجها وعنفوانها، كظاهرة معرفية وطنية، وليس العكس، كما اعتدنا أن نقتل الأشياء الجميلة، لندفنها من تاريخنا الثقافي والسياسي، ونذرف الدموع على ضياعها، ونستعد لتشييع تجربةأخرى،

ان هذه الدعوة تفتح الباب على مصراعيه، لتستقبل أفكاراً أخرى لتطوير هذا المشروع، تبدأ خطوته الاولى في جمع تراث كامل الفكري (مؤلفاته، كتاباته، افكاره، مشاريعه الثقافية، التي قدمها لوزارة الثقافة، حتى تلك الهوامش التي ذيل بها، المئات من المخاطبات)، الخطوة الاخرى، جمع مقتنياته، اقلامه، كتبه، دفاتره، ملابسه، حتى أشياءه البيتية، علب سگائره، فحياة كامل غنية على صعيد التجربة والرؤية والموقف.

فعلى الرغم من الفترة القصيرة التي عاش فيها في وطنه، قبل النفي، عرف كامل كيف يبقي مسافة بينه وبين افراد عائلته، وأقرانه مبكراً، وكان أقرب الى العزلة، ما وفر له حصانة مع الجميع، فمن أين لك كل هذا المبسم التفاح ياكامل؟ كيف يخضرّ وجهك الطفل في ذاكرتنا؟ له يعود الفضل في ادخال الكتب لأول مرة في بيت العائلة، واختار زاوية صغيرة لخزن كتبه في خزانة قديمة، أحاط نفسه بمجموعة من أصدقاء الدراسة من دون الدخول في علاقات معمّقة معهم بسبب طبعه الخجول، ومن الصدف الغريبة جداً، يتذكر ذلك فيصل، وقتها كان كامل، بعمر 16 عاماً، انه أصاب أصدقاءه برجفة مفادها: ما معنى أن نعيش مائة عام  من دون أن نفهم الحياة، الحياة ليست بطولها، انما بعمق معانيه أثناء الحوار حول العمر، وتوقعات المستقبل، فسأل أحدهم: ما العمر الذي تتطلبه لفهم الحياة، فأجاب على الفور 54 عاماً!! وهو عمر كامل بالتمام لحظة اغتياله.

لم يُعرف عن كامل انه تشاجر مع، أو رفع نبرة صوته مع أحد، بل كان مسالماً وديعاً متواضعاً، عرف منذ طفولته برجاحة عقله، وتفكيره وهدوئه وسرّيته الشديدة، لم يكن شغوفاً بلعبة كرة القدم، بل كان يحب لعبة التنس، والملاكمة، وهنا تكمن المفاجأة، والمفارقة الأخرى، هي أن الشعر أكثر صنوف الأدب التي أسرته، وأشد ما يزعجه أن تتحدث عن كتاب لم يقرأه.

هي أمنية أن نرى بيتاً او جناحاً لكامل شياع وغيره من مبدعي العراق، يضمّ آثارهم، نعاوده بزهرة حب، أو تحية، ألا يحق أن نشيد رموزاً للمباهج العراقية الابداعية؟ يا للحسرة أن تضيع هيبة هؤلاء يطويها النسيان! ضحايا الحلم الانساني والثقافي.

السؤال الأهم : من هي الجهة القادرة على تنفيذ هذه الافكار على بساطتها الآن؟ ومن حقنا التساؤل عن أي أثر نجده لهذا النموذج من احياء الذاكرة؟ أكاد أشك ان تتحقق هذه التجربة بالمواصفات التي أشرنا، من قبل المؤسسة الحكومية، إذ أجد العكس تماماً في الانموذج الذي يشوّه التجربة، لذا فان مزيداً من الشعور بالاحباط يداهمني، لكنني أتعلل بالحزب الذي أقام فيه كامل الى آخر لحظة في حياته، ان يتبنى هذا المشروع، خطوة، فخطوة، فهو الأجدر، والمؤهل الوحيد أن يعيد لكامل حضوره، صوته، خطواته، لان انتماء كامل كان الخيار الصعب الذي أودى بحياته، يا لها من مهنة شاقة، لانك ياكامل لم تذق طعم الوطن، فوقفت حتى لحظة رحيلك المفجع، موقف المتسائل عن اجابات لا نهاية لها.

......................

* عبارة وردت في نصوص كامل شياع

** ولد كامل شياع في بغداد، منطقة الصالحية في الخامس من شباط 1954،وهو الابن الثاني لعائلة كبيرة كادحة، درس في المنصور الابتدائية، تخرج في معهد المعلمين في الاعظمية، وعين معلماً في مدرسة الموفقية في المحمودية، لتدريس الانگليزية، اذ كان مواظباً على مكتبة المعهد البريطاني في الوزيرية ببغداد، فطوّر حبّه الذي رافقه على مدى حياته للادب الانگليزي، ثم تمكنه من اللغات الاخرى (الفرنسية، البلجيكية، الايطالية)، وهو في المنفى.

عرض مقالات: