اخر الاخبار

“بعد آلاف السنين، تحت هذه الشمس نفسها التي تحرقنا، بجسد يسقيه المطر لا غير، سيرقد هنا شاب يشبهني تماماً، سيتمدد في عسل العشب، ويتكئ على غصن الأشجار”.

تجمع هذه المختارات التي تحمل عنوان “يقين قلق”، للمرة الأولى، العمل الشعري والصحافي للشاعر الكولومبي خوليو دانييل تشابارو Julio Daniel Chaparro، الذي اغتيل في الرابع عشر من نيسان 1991، في بلدية سيغوفيا، التابعة لإدارة أنتيوكيا الكولومبية، مع المصور الصحافي خورخي توريس، أثناء قيامهما بتحقيق صحافي لجريدة “الإسبيكتادو”، حمل عنوان “ما سلبه العنف منّا”، والذي نال، بعد وفاة خوليو وخورخي، “جائزة سيمون بوليفار” للصحافة الوطنية.

يُعد هذا الكتاب بمثابة احتفاء وتكريم لهذا الكاتب والعابر الذي لم يكل أو يتعب، والذي صور، كما لم يفعل أي صحافي آخر في تاريخ كولومبيا كلها، الواقع المتشنج للعنف من خلال الشعر والاستعارة. مع اغتيال خوليو دانييل تشابارو، خسرت البلاد طريقة سرد كان قد أطلق عليها هو نفسه اسم “جيل الكمائن”، تماماً كما خسرت البلاد روح الدعابة، عندما اغتيل الممثل الكوميدي والمحامي الكولومبي خايمي غارزون (1960 - 1999). يشكل عمل خوليو دانييل جوقة من اللهجات، إنه نبع من المصطلحات الشعبية، رحلة طيور تهاجر. لقد تحطم قارب الطبيعة الجوالة في نثره وقصائده، لأن قراءه لم تتح الفرصة لهم بعد، رغم مرور سنوات عديدة على جريمة الاغتيال، كي يستمعوا إلى الجانب الشعري للصحافي، أو إلى الجانب الصحافي للشاعر. باختصار، لم يتمكنوا من الاستماع إلى ذلك الرجل الحساس الذي عاش في “بلد من قلوب من رماد”، حيث تنبأ هو نفسه، في قصائده التي كتبها في عام 1986، أنه سيموت مقتولاً.

إن الصفحات الـ 345، التي تشكل هذه المختارات، والتي تم تعميدها ببيت شعري له هو “يقين قلق”، كما لو كانت غمزة عين، تُعد محاولة جديدة لاستعادة لون الشمس التي بقيت تنبض في صدره، على الرغم من لون العنف الذي صبغ أيادي من قتلوه. هكذا بقيت أعماله التي لم يسمحوا له بالانتهاء منها خالدة دون أن يكملها. وهذا هو شأن الكتّاب الكبار.

يحتوي الكتاب على مجموعة من الأصوات الصديقة والودية التي أود أن أشكرها لأنها سمحت، بحساسية كبيرة، عبر هذا الكتاب، باستحضار ذكرى صديقهم وزميلهم؛ وهم: أرتورو غيريرو، وإغناسيو غوميز خي، ويوجينيا سانشيز، ورودولفو برادا، وكلوديا جولييتا دوكي. كذلك احتوى الكتاب على معلومات أرشيفية قدمها لنا دانييل تشابارو، الابن الأكبر لخوليو، والذي كافح معنا بلا ملل أو كلل، كي يحافظ على ذاكرة والده حية ومتقدة. دون أدنى شك، لولا تعاونه معنا، لما كان هذا الكتاب ممكناً.

يبدأ كتاب “يقين قلق” مع ديوان دانييل الشعري الأخير، والذي يحمل عنوان “شجرة عارمة”، حيث نقدمه كما هو، بعد أن حافظنا على الشكل والترتيب الذي كان قد وضعه خوليو قبل أيام قليلة من اغتياله. أما بالنسبة للمختارات اللاحقة، فتسلط الضوء على أعماله الرئيسية الأولى، دون أن ننسى بعض أشعاره المبكرة. كما أننا أدرجنا بعض المواد التي نشرت في السنوات الأخيرة في بعض الكتب التي احتفت بالشاعر والصحافي. بالنسبة إلى الصور المدرجة في الكتاب، سيجد القارئ، إضافة إلى بعض الصور القيّمة للغاية من أرشيف العائلة، مجموعة خاصة من الصور الفوتوغرافية التي التقطها كونستانتينو كاستيل بلانكو، شريك خوليو الكبير في صوره وفي أغلفة كتبه، بما في ذلك غلاف هذا الكتاب الذي صمّمه من نبض يديه.

كذلك تحتوي هذه المختارات على النصوص الصحافية الكاملة التي كتبها خوليو، وهنا لا بد أن نشكر جريدة “الإسبيكتادور” على كرمها، ذلك أنها أتاحت لنا نشر أرشيفه، وأود أن أشكر بشكل خاص كلا من ماوريثو دياز، وسيرخيو غاما وأغوستو دياز على الجهد الكبير الذي بذلوه في رقمنة هذا الأرشيف.

يجمع الكتاب ما يقرب 39 مقالاً صحافياً، صُنفت في خمسة فصول: “الوجه البشري”، و”كولومبيا الأخرى”، و”الشعر والجماهير”، و”صوت الحرباء”، وما سلبه العنف منا”. أما في الفصل الأخير من الكتاب، فنعيد بناء غياب خوليو دانييل انطلاقاً من أصوات عائلته وأصدقائه، حتى إننا نعطي مساحة خاصة لصوت الأجيال الجديدة من الصحافيين مثل نيكولاس سانشيز وفرناندو هيرنانديز، اللذين يستندان إلى إرثه كمرجع للصحافة الكولومبية. أما في ما يخص القصاصات الصحافية التي ترافق الكتاب، فلم نقصد من خلالها إحياء ذكرى الفراغ الذي خلفته جريمة اغتيال خوليو دانييل (والتي ما زالت دون عقاب حتى الآن)، التي تنبأ بها قبل عشرة أيام من موته، بل نضعها احتفاء بالرجل الحي الذي انطلق من صفحات هذه الجريدة نفسها التي أحب، والتي نضع بعض قصاصاتها، في إشارة إلى المقاومة التي قام بها بالحرف، في بلد تعودنا فيه أن يضيع كل شيء، حتى لو بحثنا عنه.

إنّ “صندوق وزارة الثقافة” الذي طبع هذه المختارات الشعرية، لم ينشر الكتاب من باب الاحتفاء بذكرى هذا الشاعر والصحافي الوطني فحسب، بل فعل ذلك نظراً لجودته وفعاليته الشعرية، إضافة إلى طلبات العديد من الكتّاب والمؤلفين الذين طالبوا بنشر عمل خوليو دانييل. ضمن هذا المعنى نفهم معنى مقولة الكاتب وعالم النفس الكولومبي ألفريدو مولانو (1944 - 2022) الذي أشاد في عام 1991 بنشر الكتاب، عندما قال: “راح خوليو دانييل يضع ريشته البيضاء ونظرته النظيفة والثقافة في المطارح نفسها التي أردت أن أكون فيها. لقد كان أكثر رشاقة منا جميعاً. وبطبيعة الحال، أظهر شجاعة تفوق فيها علينا جميعاً. ببساطة كان أكثر صراحة ومباشرة منا”.

وحتى بعد رحيله، ظل خوليو ولا يزال متفوقاً على أولئك الذين بقوا، وهذا ما دفع الصحافي والمصوّر الكولومبي خيسوس كولوراد إلى التأكيد: “إننا جميعا نمثل مجموع النظرات إلى الأشياء والعالم. شخصياً، وعلى مر السنوات، حاولت من خلال عملي في الصحافة، أن أنقل كل يوم حلم أن تكون نظرتي الشخصية نظرة خوليو نفسه. لم أكن لأعمل بالصحافة لولا خوليو دانييل، لولاه لما كانت هناك صحافة، ولكنت قد هجرتها بكل تأكيد”.

وأملاً بأن تعيد هذه المختارات اليقين بالأمل الدائم والمتقد، وترسم وجه خوليو الذي ولد في ربوع سوغاموسو الكولومبية التي ولدت فيها الشمس، كما تقول الأسطورة؛ نهديك هذا الكتاب المجنّح، أيها الرجل الطائر. ولتعرف، أينما كنت، أنّنا نحلم بك. وستعود إلينا، تماماً كما كانت رغبتك: “حتى لو كنسوا أوراق الأشجار”.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*خافيير أوسونا كاتب وصحافي كولومبي، والنص مقدمته لكتاب “يقين قلق” الذي يجمع أعمال خوليو دانييل تشابارو الشعرية والصحافية، ترجمها من الإسبانية لـ”العربي الجديد” جعفر العلوني

العربي الجديد – 25 آب 2023

عرض مقالات: