اخر الاخبار

ثمة ما يدفع المتذوق، المهتم بالشأن التشكيلي، حاجته للافصاح عن رغباته واهتماماته في توثيق العمل الفني، هذا التوثيق لا يأتي عبر الكلام والتمني، انما يتحول الى حقيقة ماثلة أمام العيون، بطريقة أخرى محاولة استكمال الصورة المحفوظة بين الجدران، الذي هو امتداد باتجاه آخر لفضاء الجمال. ما أقدمت عليه مؤخراً مجموعة الابراهيمي للفنون التشكيلية، في أصدار، مطبوعها الاول ( متحف في كتاب)، يعدّ خطوة مهمة في هذا الميدان، صدر الكتاب عن (خطوط وظلال - للنشر والتوزيع)، في عمان، عام  2022، تأليف حسنين الابراهيمي. (متحف في كتاب)، ليس متحفاً للخيال، انما حقيقة في متناول متابعي الفن العراقي، باتجاهاته وأساليبه، ورواده، لذلك يأتي حضوره أشبه بالأنبثاقة، وانفجار عين ماء وسط صخرة، أو أرض يباب، فالجهد الذي قدمه الابراهيمي يفسر طبيعة التدابير الفنية التي استعان بها المؤلف، كي يثبت وجوده المؤثر فينا. قد تكون هذه الأعمال الأكثر حساسية التي تشفّ عن رؤية مكتملة الصفاء، لا تتلقاها الأبصار ولا البصائر، الا كوحدة مضيئة فينا.

تضمن الكتاب أربعة فصول، تناولت تمثلات الحركة التشكيلية العراقية وأصولها، ومرحلة التأسيس، عبر تسلسلها التاريخي، بدءاً من المدرسة العراقية للتصوير، مروراً برواد الحركة منذ بداية تأسيس الدولة العراقية، ثم جاء الفصل الثالث مخصصاً للريادة والجماعات الفنية، التي بدأت تتضح معالمها في بداية أربعينات القرن الماضي. حيث بدأت البوادر الأولى لتحقيق شخصية عراقية فنية، والدعوة الى تبني الأساليب الحديثة في الأداء كما تشير مقدمة الكتاب لمي مظفر  (ص  15)، التي تؤكد كذلك الى ان مجموعة الابراهيمي تضم ما يكفي لاظهار التنوع في الاساليب والرؤى لمرحلة الجيل الذي عرف تحديداً بجيل الستينات، اذ تميز  هذا الجيل بفضل تطلعات فنانيه، بحمل موجة الابداع العراقي، ونشرها في العالم العربي، والعالم من بعد.

  وفي المجموعة ما يمثل أجيالاً اخرى من فناني العراق التشكيليين، لعقود السبعينات والثمانينات، صعوداً الى تسعينات القرن المنصرم، مع نماذج من أعمالهم الفنية، بيد ان القارئ سيجد أكثر من وسيلة للتعرف على الفن التشكيلي العراقي، وسيجد الجهود الكثيرة المبذولة لتجذير واقعه الفني، باتجاه اساليب المعاصرة والحداثة، وعن الفن كغرض يجعل من حواس المتلقي ذات صلة بالتحولات الفكرية والفنية في العراق. فالفن التشكيلي، بكل أساليبه وأنواعه يسعى للكشف عن الجمال المضمر في الحياة وفي الأشياء. ان أهمية هذا المشروع يفصح عنها حسنين الابراهيمي بالقول: تعنى المؤسسة بالفنون البصرية، وتهدف رعايتها والحفاظ عليها ونشرها والتعريف بها، رغم الكثير من التحديات والصعوبات التي واجهتنا، وعلى الرغم من أن التجارب تستغرق الكثير من الجهود والموارد والوقت، لكننا  نعتقد اننا من خلال هذا المشروع ، يمكننا تقديم شيء من الدعم والرعاية والحفاظ على الأرث الثقافي والفني للعراق في حقل الفنون البصرية.

وعن اهمية التوثيق في حفظ وتقييم الاعمال الفنية التشكيلية، كأشكالية لازمت التجربة العراقية، تبرز الحاجة  لمراجعات دائمة لتوثيق أصالة الاعمال، وعائديتها الحقيقية، على وفق ستراتيجية علمية ومهنية، تعتمد الخبرة، والوسائل التقنية الحديثة في التحقق والتنقيب، والاستعانة بلجان متخصصة مشهود لأعضائها بالدقة والاحتراف، مع الاخذ بنظر الاعتبار وضع قاعدة بيانات رقمية شاملة  للفنانين وأعمالهم الفنية، وهو ما دأبت مجموعة الابراهيمي على العمل بموجبه، استناداً الى حزمة الاجراءات التي اتبعتها للتأكد من رصانة الأصالة والعائدية، مع وجوب أخذ الحذر من الآراء السريعة، المستعجلة، التي  تحبط المساعي الخيرة، وتفرغ المشروع من محتواه وغاياته النبيلة.

 ضمن هذا السياق، نعتقد ان المسؤولية الفنية والتاريخية، تتطلب القول :ان الجماعة كي تؤكد حضورها ووفاءها لرموز الفن العراقي، هو الالتزام بهويتها العراقية الصميمة، التي مارس فنانونها العمل ضمن هذا الاطار، محترفين، وهواة، ولكي تؤكد هذه التجربة، ليس من حق أية جهة شطب جانب من حركة أو فصل من تاريخ، مادامت الغاية السامية متحققة، ولتأخذ المجموعة بالنقد الهادف، الموضوعي، كي تظل وفية لتقاليدها في الحضور، بلا انطفاء، كما نتمنى. لتمنحنا الفرصة في تأمل الفن العراقي.

ثمة ملاحظة تجدر الاشارة اليها تتعلق بمستوى المطبوع فنياً، فعلى الرغم من الجهود الرائعة التي بذلتها دار النشر في اخراجه، وطباعته وفق التقنيات والمواصفات الحديثة، الا ان معالجة اللون في العديد من صور الاعمال الفنية، جاءت ضعيفة، بعض الاعمال فقدت بريقها وتوهجها، وبعضها الآخر باهت ومضبب، نأمل ان تتدارك دار النشر هذه الملاحظات في طباعة الاجزاء التالية.

عرض مقالات: