اخر الاخبار

عنونة المجموعة القصصية التي نشرها اتحاد الادباء والكتاب في العراق للقاص عبد علي اليوسفي هي “ حسناء الاذاعة “ وهي الاشارة غير متكتم عليها بل هي واضحة ، ولم تفقد امكانات الجذب والاثارة . لكن اليوسفي ظل متوازناً بالسرد ، محافظاً على هدوء لغته ، وأخضعها تدريجياً لنوع من النمو ببطء لكنه حافظ على قاموسه السردي الفياض بالجمال والدهشة كثيرة التكرر ، لكنها لم تفقد هيبة تسللها الهادئ ، حاملة معها نوعاً من التغذية التي يحتاجها عنوان المجموعة والذي له علاقة بالإذاعة وما يقترن بها من جمال وحضور لائق بالحسناء . حتى لم يفقد المتلقي ترقبات انفلاتات الشفوية المتمتعة بالشعرية ورنين حيوية الترقب الذي ظل وسيظل القارئ واقفاً أمام منافذ السرد الذي أومأ له القاص اليوسفي . ولم يتخذ قرار انفتاح المنفذ المطلوب والمنتظر ، لأنه الكامن عند الحد السردي . هذا الغذاء السردي وتسلل الملفوظات الشعرية التي أشرنا لها هي الحاكم القوي الذي سيوفر نوعاً من سلطة بطيئة ، أضاءت علاقة بين الراوي وبين شخص آخر تسلل بطاقته القوية ، وشغل حضوراً ابتدأ مثل التسلل الهادئ والرزين . وأعتقد أن الوظيفة التي سيتعرض لها السرد هو انتاج فيلم وثائقي .

تجاورت الموسيقى مع السينما ، وكأن هذا الذي حصل اعتباطياً ، بل هي من خصائص مشاركات الفنون مع بعضها البعض الآخر [ الموسيقى تنبعث من الجهاز هادئة وهي تغذي وجودي وتمنحني النشاط والدفء ] ص 95 .

في بيت الراوي هدوء اختار سكنه وارتفع قليلاً صوت الموسيقى في الجهاز ، وفي اللحظة التي أثارته نقرات خفيفة على باب غرفتي المطلة على الحديقة . كما كنت أتوقع دائماً.

ظل الاتصال مخفياً والراوي متكتم عليه وهذه السرية احدى منتجات السرد وحديثاته التي تشكل اشتباكات السرد بين احداثه التي ابتدأت بالذي نقر على الباب ، وحتماً سيكون لها امتداد او سيرورة وما سيحصل ، استعادة من الذاكرة ، وخزانات التاريخ غير المبتعد عن الماضي الذي سيضع الحدث السردي في بؤرة مركزية وجوهرية لان العلاقة مع الماضي وتمثله واعادة كتابته امر في غاية التعقيد وكما قال هومي بابا ان الماضي سرد ، والسرد مرآة الجماعة والامة هذا يعني ، ستظل الموجودات الحياتية باقية ومستمرة ، خاضعة لما هو موضوعي ومنطقي ولابد من اشارة ذكرها بندكت اندرسن من ان الجماعات تفقد تحالفاتها عندما تتفق . في حوارها اتفاقاً حول حتميات الحاضر وضرورات المستقبل .

حساسية الكتابة الفنية للسيناريو تتحرك بطاقتها المطلوبة وتبدأ :

اقتربت بتؤدة . جمعت قواي وصحتُ :

ــ من ؟ مقهقه بهدوء ثم قال :

ــ انا . واردف

ــ افتح الباب . كررت.

ــ من ؟

كان صوته أليفاً بشكل غريب وكأني اسمعه يومياً . ضحكته زادت من عزيمتي على فتح باب الغرفة . وعندما فتحت الباب وجدته منهمكاً بخلع حذائه وتمتم ( دائماً تنسى ماذا كان هذا النسيان ) ص96.

نجح القاص برسم اطار صوري مثير . حيث اضفى عليه اجمل الصفات التي جعلته حاضراً بقوة ( صوته أليف بشكل غريب وكأني اسمعه يومياً ضحكته زادت من عزيمتي على فتح باب الغرفة ... وجدته منهمكاً بخلع حذائه وتتمتم ... / دائماً تنسى ماذا كان هذا النسيان ) ص96.

لعب الفضاء العام دوراً فنياً واضحاً في رسم وضبط لغة السرد الشفيفة حتى اتسمت سرديات اليوسفي بالتناظر ولعبت طاقة الفن بقوة في لغة مركزة وكأن لغة الموسيقى لها دور بارز حضر منذ ابتداء السرد واستمر حتى نهايته .

استعادت ذاكرة الراوي المحتفظ به عن خزان الذاكرة الكاشفة عن علاقة قديمة بين الاثنين واضاءت مشتركات بينهما (... حتى جعلني اتصور انني امام مرآة . انظر الى صورتي . هل هو اخي الذي قالوا انه مات في الايام الاولى من ولادته وقد كذب المتجمعون “ كما يقال وانه حي يرزق في مدينة اخرى “ ص 99.

الراوي يقظة وكأنه صار مؤهلاً للاستذكار وتدوينه وانجاز ما يغذي تجربته القصصية وكأنه يؤدي بذلك تكريس ديمومة الحياة والحفاظ على سيروريتها ( انا اعرف انك تخاف كثيراً ما تكتبه من الموت وتحب الحياة بشكل يثير الريبة / ص98.

“ ما ادرك انك تتخيلها مثلي اياماً خضراء تشبه ايام الطفولة ، التي دائماً تحنُ اليها ... انها جميلة خضراء ... الكتب الخضراء ، والحب اخضر والماء والشجر والارض ، كل شيء اخضر وطري ... وهذا الالم وهم ايضا ... اننا لا نعيش سوى اوهاماً ... وحلمنا اننا سنصبح شيئاً في المستقبل ونفوز بالحواشي ، والمناصب والنساء . والبيوت الكبيرة والشوارع المضاءة  والمساءات انك تصر على مواصلة الحياة . وكأنك اخذت الحكمة من سيدك جلجامش وهذا يأخذ بنصيحة “ سيدوري “ صاحبة الحياة الشهيرة .

قصة قصيرة ، مختزنة بشفافية اللغة وشعريتها وانثيال دلالاتها حيث جعل منها القاص اليوسفي نصاً دفاعياً عن الحياة ومقتحماً للموت والسواد . فالحياة حصراً ، وكانه اعاد ما كتبه لوركا عن الحلم الذي توصل له مرآة خضراء .

ضيف مروياته مثيرة وذات تلاوين تعطي اللحظات ما يشبهه الانا وقال أخيراً باستحالة دخول غاية فاتن ولا مدينة جسدها ، اتعرف اني احبها كذلك . وفي لحظة الاندهاش الذي ابتكره الضيف غاب يلمح البصر وكأنه ذاب .

وخاتمة المساء ما قاله الراوي مكررا حلم العمر :

راحت عيناي تترقبان عودته ليكمل سيناريو فيلم عمري الوثائقيش

عرض مقالات: