اخر الاخبار

تقدم لنا المترجمة (رغد قاسم) كتابا قامت بترجمته وتحريره عن الروائي الأمريكي جاك لندن تحت مسمى سنوات التكوين (سيرة الطفولة ـ حكايات دورية حماية الاسماك ـ أيام التشرد) وهو يتحدث عن سيرته التي قامت بجمع معلومات عنها من خلال كتابا قامت بإعداده زوجته الثانية شارمين لندن، ومن رسالة ماجستير لبايرون ستيفنسون من جامعة كنساس وفي كليهما بيّنت المترجمة ما في سيرته البائسة تلك من أثر لطفولته على تكوينه الإنساني والثقافي والنفسي أيضا.  مع ترجمة كاملة لكتابه (حكايات دورية حماية الأسماك) وقد اضاء هذا الكتاب الكثير عن سنين  مراهقته وشبابه على شكل قصص، كما عملت المترجمة على ترجمة كتابه (الطريق) الذي ضم افكاره واحلامه وايام تشرده ونضاله في سبيل مبادئه وكيف انتقل بتلك الحكايات من البؤس والجهل الى الحرية عن طريق الكلمة، وفي الحقيقة علينا الاعتراف بأن ما قامت به المترجمة يعد عملا شاقا  تمكنت منه بلغتها المنسابة الصافية وتمكنها من المفردة المناسبة والمعنى الرصين المحكم.

تكمن عظمة وطزاجة هذا الكتاب في أنه يعرفنا بالروائي واهميته الأدبية والثقافية وهو يسجل بشكل دقيق وموجع هذا المزيج من مشاعر الاحباط، والأسف، والحزن، والدهشة والسعادة ايضا بعد أن عمل على أن يقدم لنا جاك لندن وقد شغف بالكتب منذ صغره، وخفايا اصراره على الارتقاء بنفسه على الرغم من الفقر المدقع الذي كان يعانيه ومن الفاقة التي جعلته يعمل اكثر الاعمال قساوة من اجل لقمة العيش وهو لا يزال صبيا، الأمر الذي ولد لديه خبرة حياتية اهلّته لأن يكون باحثا اجتماعيا بقدر ما هو روائي وسارد من الصف الأول، قرأ وهو مراهق اعمال هربرت سبنسر وكارل ماركس وفردريك نيتشه لتتشكل قاعدته الفكرية ككاتب وانسان مؤمن بالسعي نحو حياة افضل ومجتمع اكثر انسانية بعد ان ظل طوال حياته متنازعا بين فكرة الاشتراكية والمساواة بين الناس ومعاداة الرأسمالية التي تسحق حياة الفقراء من جهة، وبين فكرة الداروينية الاجتماعية التي تنادي بتميز وبقاء الأفضل والأقوى، وطموحه للغنى والاكتفاء بنفسه عن الحاجة للعمل لدى الآخرين من جهة اخرى، وهذا يثبت انه ثقف نفسه بنفسه بعد ان كتب عن حياته لتكون سجلا فعليا وتاريخيا راصدا لحياة المجتمع وان كان على شكل قصص تحمل صفتها الدرامية، وفي هذا الموضع  يذكر إحسان عباس عن هذه العلاقة الوطيدة بين السيرة الذاتية والتاريخ إذ يقول: كلما كانت السيرة تعرض للفرد في نطاق المجتمع، وأعماله متصلة بالأحداث العامة، أو منعكسة منها، أو متأثرة بها، فإن السيرة تحقق غاية تاريخية، ويضيف: وكلما كانت السيرة تجتزئ بالفرد، وتفصله عن مجتمعه، وتجعله الحقيقة الوحيدة الكبرى، وتنظر إلى كل ما يصدر عنه نظرة مستقلة، فإن صلتها بالتاريخ تكون واهية ضعيفة(*).

ولإثبات تلك الصلة بالتاريخ نذكر ما يقوله جاك لندن: ولدت في الطبقة العاملة، وفي الثامنة عشرة من عمري، وجدتني في نقطة أدنى من المكان الذي بدأت فيه. كنت في قاع المجتمع، في أعماق البؤس.. في حفرة، هاوية، في مستنقع بشري، في الخراب الكبير لحضارتنا البشرية..”.

وهو بعد اتمام دراسته الثانوية صار ينشر في مجلة المدرسة وصار مناظرا معروفا ولازم الحضور بانتظام في تجمعات المؤمنين بالحركة الاشتراكية. وظل يلقي الخطب في الاماكن العامة بمهارة وحماس لمدة تزيد عن السنة منتقدا الحكومة ومطالبا برفع اجور العمال وبالحياة الكريمة للمجتمع حتى اصبح معروفا باسم (الصبي الاشتراكي من اوكلاند) وتعرض للسجن ثم اضطر لترك الجامعة بسبب ظروفه المادية البائسة.

ترك جاك لندن خمسين كتابا بضمنها عشرون رواية وقد انجزها في غضون ثمانية عشر عاما هي فترة نشاطه، إذ انه توفي وهو في عمر الأربعين. أما رسائله الكثيرة فقد جمعت بعد وفاته ضمن خمسة مجلدات من قبل ايريل لابرو، وللحديث عن اسلوبه ولغته فقد كان يستخدم في كتاباته لغة حماسية متصاعدة تطلق روح المغامرة وتسارع الاحداث التي تسلب النفس وهي تقترب كثيرا من لغة الشارع اليومية لتضفي مسحة واقعية على اشتغاله.

إن تعرض جاك لندن للسجن في شلالات نيكارغوا بتهمة التشرد حفر في ذاته تجربة مؤلمة دعته لان يعمل بجد وأن يتخذ سبلا تخالف مبادئه للنجاة، وتعالج ثغرة روحه بسبب ما عاناه من الجوع والذل، الأمر الذي جعله  يقرر بعد عودته لمسقط رأسه في صيف 1895 كي يعيش مع والدته، أن يحصل على الشهادة الجامعية ليكون كاتبا مرموقا تتقبله الاوساط الاكاديمية. كما قرر التوقف عن استخدام عضلاته والحصول على التعليم وان يصبح تاجرا من نوع آخر بعد ان افلس في تحقيق غناه المادي، ليقرر ان يكون تاجر عقل. وقد نجح في ذلك بما تركه من ارث ثقافي واسع له صداه وقراؤه الى يومنا هذا.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (*) ينظر: إحسان عباس: فن السيرة، دار الثقافة، بيروت لبنان، ط1، 1996م، ص7ـ 11.

(**) ترجمت الى العربية روايته الفذة “العقب الحديدية” كذلك ترجمت مجموعته القصصية الاثيرة “تحت سماء الجليد”.

عرض مقالات: