اخر الاخبار

نرتحلُ مع عيون الشاعرِ وما يراهُ ليتكلمَ لنا عن نفسهِ وما يشاهدهُ وفي ازمانٍ مختلفةٍ مِن طفولة وصِبا وشباب وشيخوخة. لنبدأ معهُ رحلةً نحو المدن ، الموت ، الأب ، الأم ، الأخت ، المرأة ، الحرب ، حتى في قصائدهِ نسمعُ صوتَ الاطلاقة تقتربُ من خوذتهِ ، يُدخلنا معهُ الى جزئياتِ قصائدهِ . مُنذ الأهداء الذي كتبهُ الشاعرُ هبطنا معهُ عِند والديه وعِند بيوت الفقراءِ مع السقوف المُثقّبةِ وأرغفةِ الخبزِ ، معها دلفنا الى عالم المدينة ودخلنا بغدادَ وما رأيناهُ بعيونِ الشاعرِ. تِسعٌ وخمسونَ قصيدة سافرنا معها ومعَ الشاعر نتأمل بغدادَ وحاراتِها وشخوصِها وأشجارها وذاكرة الشاعر التي تتأنقُ دوماً بشخصياتٍ وأحداثٍ ، كلما دخلنا من بابٍ ذهبَ بنا الى بابٍ آخر ، أحسسنا أننا في تسعٍ وخمسينَ باب والأهداءُ كانَ بوابةَ القلعة الأولى . حين دخلنا مِن بابِ قصيدته ( لم يبلغ بعدُ سِنّ التأمل ) وجدنا أنفسنا معَ محاولةِ سفره عِبر المقبرةِ حيثُ ضياعُ الشبابِ في الحروب وحيثُ بحثهُ عن قبرٍ في وطنٍ لا يمتلكُ بهِ أرضاً فكانتْ كلمتهُ عن الدفنِ دون قبرٍ لكي لا يُضايق الموتى فالقبرُ لديه سفرٌ نحو عالمٍ سيلتقي فيه بمِن رحلوا ، هُناك حيث لا حزن ، سيبحثُ عن ارضٍ عاريةٍ يُدفن بها بلا قبرٍ ، فالموتى حينَ يغادرونَ حتى لو كانوا فقراءَ سيملكون قُبورهم وشواهدَها ، هُناك فقط سيملكون أرضاً ( لذا أرتايتُ أن لا أُدفن في قبر لكي لا أضايق الارض مرة ثانية في مماتي كما ضايقتها في حياتي ) ص 8 . 

في قصيدة ( قرنفلةٌ ونخلة ) ص9 يرتحلُ بنا نحو النضال والرجال ونحو الأفكار وعشق العراق ونحو هتافات الشباب والأغنيات ، يسيرُ بنا نحو تشرين وأجواء ساحة التحرير حيثُ صرخات الثورة وشبابها ( وآلافٌ من الأفواهِ تُطلقُ في ساحةِ التحريِر صرخاتٌ وتشعلُ للقادمينَ مع الضياءِ قناديلٌ وثورة ) ص11 . لمدينةِ الحُرية وجودٌ واسعٌ في ذاكرةِ الشاعرِ وقصائدهِ حيثُ يبحثُ عنها في زوايا ذاكرتهِ وبينَ نساءِ منطقتهِ وعِند القابلة المأذونة حين قدوم الجُدد نحو مدينته الأثيرة ، قدومُ الملائكةُ إليها . إستذكاراتُ الشاعر كثيرةٌ وصراعُ الأحتجاجِ والحزن والحروب في قصائدهِ ، إنّه حُزنه على وطنهِ ، حُزنهُ على بغدادَ ، على ذاكرتهِ المسافرةِ بين الحروب والأحزان وقُبور الشهداء والنساء الأرامل والمشردين في الأرض بِلا مأوى ومتاهات الحروب والفقراء      ( الفقراء يدخلون الجنّة دون اسئلة لأنهم ألفُوا الجوع كظلِّهم ) ص19 .

مدينةُ الحُريةِ تعودُ دوماً مع الشاعر وهُتاف ثورةُ الجياعِ وشمسُ تموز وحيث ( الأزقة تحرسُ الناس من الجِنًة والناس ) ص22 و ( أُجيئك متوضئاً لأصلي في رحابكِ وأُقبّلُ ما بين عينيكِ .. مدينة الحرية .. مدينةٌ على هيئة وطن ) ص 22 و 23 .  في مسرحية “ كأسك يا وطن “ حينَ أخذنا الشاعرُ محمد الماغوط من خلال الحوار الفلسفي بين دريد لحام ووالدهُ الشهيد والأسئلة مِنه حولَ الجنة والأرض وما بينهما كانَ دخولُ الشاعر بشكلٍ جميلٍ وسلسٍ وفلسفي في قصيدتهِ “ أسئلة افتراضية إلى أبي “ ص24 ، حوارٌ يسافرُ بِنا نحو السماء ونحو الجنة ، كلماتٌ هي أحلام يقظة ، هل كان حُلُما أم يقظة ؟ هل كان سؤالاً أم جواباً ؟ هل كان حواراً ؟ إنها اسئلةٌ افتراضيةٌ لنا .  يرتقي الشاعرُ عالياً في كلماتهِ نحو تحديد المكان والزمان وحول الحياة والموت في قصيدتهِ “ محاكمةُ النوّاب “ ص 27 حين يقول ( فأنا حيٌّ ارزق حتى في موتي ) ص 28 هنا يتناول مفردة عدم إنتهاء الشعراء .

بوحُ الشاعر كثيرٌ وكبيرٌ وهُناك إقترابات من الناسِ حيثُ الكلماتُ تُغازلهم وتضحك ُمعهم وحيثُ مصفوفات الكلمات بنسقِ الحُكماء لكنّها مغلفةٌ بالصفيحِ كبيوت الفقراء ، في قصيدته “ الملائكةُ تهبطُ في بغداد “ حِين يتحدثُ ( الأمنياتُ الصغيرة لا يمكن لها الجلوس على مائدةٍ فاخرةٍ فالأثرياءُ صادروا أرغفةَ الخبزِ ورهنوا الجوعَ بالمزادِ العلني ، كتبوا بيوتَ الصفيح بأسمائهم في دوائرِ العقارِ) ص 30 ( تمتلىءُ ساحات التحرير بالدمِ والهتاف والسماءُ تكتظُّ بالشهداءِ ) ص32 ، ففيها تهبطُ الملائكةُ في بغداد ليكونوا ضيوفاً في بيوتِ الفقراء مع شبابِ تشرين وعزف النشيد الوطني ، إنه أُوبريت فيهِ عازفونَ ونوتاتٌ ومايسترو والمستمعونَ هُم الشهداءُ ( يُغنُّون موالاً بالعراقية الدارجة من مقامِ الصَبا ثم يصعدون الى السماء ) ص34 .   الشاعرُ يرتحلُ مع الزنابق ومع ابراهيم الخياط في قصيدتهِ “ الزنابقُ تحتشدُ في المقبرةِ “ ص35 حينَ يتحدثُ معهُ عِند قبرهِ ( حتى وأنتَ في قبركَ تحبُّ الألفةَ وتسعى لإيجادِ فرصة لكتابةِ الشعرِ ) ص37 ، يسمعُ صوتهُ كرجعِ صدى فالحوارُ هنا يبتعدُ بِنا نحوَالحُلم حيثُ الصدى هو الصوتُ والقبرُ هو الصورة .

في الحروبِ دوماً هُناك أملٌ وهناك نظراتُ الحُب حين يُودعوننا ، وحينَ يسكبون الماءَ خلفنا ، فهي رحلةٌ ربما بلا عودةٍ ، هُناك في كراجاتِ الإرتحالِ نجدُ بائعاتُ القيمرِ ، نجدهنّ حِينما نرتحلُ نحو عبثِ الحروبِ ، وهُنا كتبَ الشاعر قصيدتهُ “ تسواهن “ وعِشقهُ للحياة والنساء والشمس والكون حيثُ آخر صورةٍ تكونُ لها حِين يعبرُ نحو ساحاتِ الحربِ ( حتى أذهب حالماً وأعود سالماً من جبهات الحرب ) ص46 ، إنّه سفرٌ داخلي وروحي بين الأنا والحياة وبين خوفٍ من سفرٍ نحو الحرب والموت وحيثُ العين هنا مركز الكون. ( فالكون عند حدود عينيها تعمُّ فيه الفوضى ) ص44 . يعترفُ لنا الشاعرُ بصوتِ إبن النادر ويؤكد لنا إنّه عراقي الجنسية والمولد ليمزجَ لنا التاريخ القديم والحديث والتفاخر بالحروبِ والسيوفِ والانتصارات والبحثِ عن الرغيف ، إنّه الأنسان العربي الباحثُ عن نفسهِ ونصرهِ ونسيان حقوقه وحقيقته.  الأُم ، التنور ، الرغيف ، الأب ، الحُروب ، يعودُ إليها دائماً فهي تسيرُ في كونِ الناسِ والشاعرُ هو صوتُهم الهادُر بل هو منهم من حيث إختلاط الوعي واللا وعي ، بعدها يذهبُ نحو الموت حين يُعزّيه والدهُ بوفاتهِ ، إنها صورةٌ شعريةٌ جميلةٌ وحزينةٌ تسافرُ به وبنا نحو السماء ، هُنا الموتُ أصبحَ حياة (وأنتَ تتجه صوبَ بيتنا القديم لتُعزّيني بوفاتكَ كم أنت جميلٌ يا أبي حتى في موتِك ) ص50 .

يستمرُ الشاعرُ مُرتحلًا بِنا في قصائدهِ نحو عواطف تُبحرُ بِنا في خِضّم الحياةِ وبين الأرض والسماء ويرتقي بِنا حين يكتبُ عن الأمام الحسين (ع) في قصيدتهِ “ أينما أُولّي وجهي أرى الحسين “ ص61 ، حين يتحدثُ عن واقعة الطف وما حدثَ فيها ( فحينَ أرى الرأس محمولاً على الرمحِ ، لا تضيعُ عليَّ الجهاتُ والمدارُ ، لأني أينما أُولَّي وجهي أرى ضوئكَ يا حسين يشعُّ انوار ) ص 62 . كُنّا نتجولُ مع الشاعر على بساطِ السندباد السحري ونُشاهدُ بغداد الحبيبة وناسها ونهرها وشوارعها وحدائقها ، حينها يكتبُ ( الفقراءُ يبحثون في أكداسِ القمامةِ عن أرغفةِ الخبزِ ، والشعراءُ يكتبون قصائدهم بأظافرهم على جدرانِ المدينةِ ) ص83 ، فكتبَ وما زالَ يكتبُ على جدرانِ مدينتهِ الحبيبة  ( حينما تحملون نعشي على أكتافكم لا تحدثوا جلبة فالملائكة لا تُحبُّ الضجيج ) ص125 ، ذهبنا معه وهبطنا مع ملائكتهِ وسافرنا نحوَ مُدنه فهو لا يُحب الضجيجَ ووصلنا معه إلى “ بغداد ملاذ الفقراء “ ص148.