اخر الاخبار

قد يكون العنوان طويلًا ومباشرًا، لكنه يفتح لنا آفاقًا متعددة للتأويل، فما الّذي جناه الأدب على أحلام.. هل حلّق بها عاليًا بجناحيّ خياله وحقائقه.. هل طوى روحها بألم أحزانه، أم رشقها بورود حدائقه الغناء؟! لعل ذلك العنوان يطرق باب التشويق؛ ليحثّنا على المضي في ولوج عالم أحلام والتعرف على ما جناه الأدب عليها.

صورة غلاف الرواية تتناسب مع ثيمة الرواية وشخصية نهى الروائية قبل الساردة، حيث يظهر فيه فتاة يتطاير شعرها خلفها بأناقة وخفّة، تبدو وكأنها تحلق في السّماء فوق الغيمات البيضاء، تحمل في كلّ يد كتابًا، تتطاير الكتب والطائرات الورقيّة من حولها، وكأن الأديبة نهى توصل لنا رسالة فحواها: أن الكتب هي من يحلّق بنا نحو العلا، وهذا ما تتسم به الأديبة نهى عاصم، فمن يعرفها عن قرب يدرك أن الكتب تمثل الجزء الأكبر من عالمها، فهي إن أهدتنا صباحًا يكون مفعمًا بعشق الكتب، حتى قططها كثيرًا ما تشاركها هذه الهواية وإن كان الأمر بأسلوب آخر، فقد تستمتع القطة بتمزيق صفحات الكتاب أو الجلوس عليه، المهم أن لها مشاركتها في هذا العالم الجميل مع نهى.

تقول الروائية نهى في إهدائها:

“إلى قراء الروايات في كل مكان وزمان

كتاباتنا هي دعوة للقراءة

فالمرء يمضي وتظل كلماته تحكي عنه”

الإهداء يتماشى مع شخصية الأديبة نهى تمامًا، أقول ذلك لأنني أعرفها حق المعرفة، ولذلك أجزم بأن الإهداء نابع من روحها، فهي صديقة مقربة، تعشق القراءة والكتابة حد الإدمان، لذا ليس من الغريب أن يكون إهداؤها بهذه الصيغة المشابهة لميولها، فنهى من المتطوعات المثابرات في مكتبة الإسكندرية، تطالع الكتب وتناقشها ضمن ندوة مكتبة الإسكندرية، وكثيرًا ما تدير هذه الندوة عند غياب مؤسسها الأستاذ منير عتيبة حين انشغاله.

وتلخص كلمة الغلاف الخلفي أحداث الرواية باقتضاب، وتضعنا أمام حيرة، كيف جنى الأدب على أحلام؟ وكيف أوصلها إلى الطبيب النفسي، مع أن الكتب هو نداهتها التي لا يمكن الاستغناء عنها.

تقول في كلمة الغلاف: “لكل منا نداهة خاصة به، وكانت نداهة أحلام الروايات، قد لجأت إليها فأطلقوا عليها لقب: “قارئة الروايات”

ولكن الروايات كانت سببًا في لجوء أحلام لطبيب الأمراض النفسية صارخة به:

هذا جناه الأدب علي وما جنيت على أحد، وما يزرعه الأدباء يحصده القراء.”

تدور أحداث الرواية حول أحلام عزيز الّتي تذهب إلى قسم الشّرطة لتعترف بجريمة قتلها لخال هنادي أخت آمنه في فيلم “دعاء الكروان”، وهو فيلم مأخوذ عن رواية للأديب طه حسين؛ كي تنقذها من الموت على يديه. حسن حظها أودعها بين يدي الضابط حازم الّذي يحسن معاملتها ويحاول أن يتصل بصديقه الطبيب النفسي صلاح الّذي عالجه بعد أن قُتِلَ اثنان من زملائه غدرًا على الحدود.

يقابلها الدكتور صلاح ويوصلها إلى بيتها، ثم يطلب منها أن تزوره في مكتبه، ليبدأ معها رحلة العلاج.

تتحدث معه عن الكتب وأنواعها؛ الورقية والألكترونية والفروقات بين الرواية والأفلام، يجد الدكتور أحلام شخصية زئبقية مراوغة، وأن حالتها من الحالات النادرة الّتي مرت عليه، يطلق عليها سيدة المتاهة فهي صندوق مغلق بالنسبة له.

تأخذنا أحلام في رحلة علاجها مع الدكتور صلاح إلى ذكرياتها أيام الطفولة مع جدها وأمها وقراءاتها المتعددة الّتي صقلت شخصيتها، فهي سيدة تعشق الكتب وتعيش الأدوار، وتصنع السيناريوهات وتضع النهايات، سيدة أخلصت للكتاب لدرجة أنها أصبحت كل شخوصه. تقول “أقرأ الروايات، وأرشحها للقراء، أكتب قراءاتي الخاصة عنهم، حتى أطلقوا علي اسم قارئة الكتب، وصلت لمرحلة مخيفة في الأعمال، بعضها أصبحت أعرف ما سيلي من فقرات، ويصدق تكهني، وبعضها أرفض نهاياته، وأبتكر وأخترع له نهايات مثل رواية أنا خير منه لبهاء المريْ مثلًا”.

تحدثنا أيضًا عن حاضرها وصداقاتها عبر الإنترنت فنتعرف على صديقتها لينه وبناتها. تأخذنا معها إلى ذكريات الزمن الجميل وتومة -أم كلثوم- وقصص الطفولة الّتي شاركتها طفولتنا، فمن منا لم يقرأ قصص “المغامرون الخمسة وسلسلة قصص المكتبة الخضراء وغيرها؟

نقرأ معها العديد من المقالات المهمة الّتي تحكي تاريخ الفن والأدب، نعيش معها يومياتها في القراءة وفي مناقشة الكتب وكأننا نجلس معها في أحاديثها ونرتشف معها فنجان القهوة الّتي تعشقه، فحينًا تحدثنا عن رواية كارلوس زافون سجين السّماء من رباعيته مقبرة الكتب المنسيّة، وحينًا آخر تحدثنا عن رواية حد الغواية للدكتور عمرو عافية الّتي حلمت أنها أنقذت بطلتها ونسفت مسار الرواية، وقد فوجئت أيضًا بأن روايتي “هناك في شيكاغو” كانت من ضمن الروايات التي نالت حظها بالقراءة بل وبالخيال؛ فقد وضعت لها سيناريوهات ونهاية مختلفة عما ورد في خيالي.

لم تكن الرّواية بالنّسبة لي كغيرها فقد غصت بين صفحات الكتاب وكأنني أقرأ نهى لا أحلام، سعدت بطيبتها وقلبها الأبيض، وابتسامتها الساحرة المُطَمْئِنة، بل وعشقت الإسكندرية لعشقي لها.

أحلام الطيبة الّتي تعشق القطط تذكرني بنهى الّتي تحدثني باستمرار عن شقاوة قططها فأبادلها الحديث عن قططي.

أعجبتني غرفتها الّتي تشبه غرفة الأطفال؛ بلونها الوردي وأثاثها وألعابها. تسوقت معها وأعجبني اختيارها اللون البرتقاليّ الّذي أنعش ذائقتي فهو من ألواني المفضلة، عشت معها لحظات طفوليّة مرحة بعثت التفاؤل في روحي، فرغم أنني اقرأ حكاية أحلام إلا أنني أتخيل نهى الصديقة؛ جميلة الروح، صانعة البسمة والأمل. وأتابع جمال الألوان ووصف الأماكن معها حينما تصف غرفة عيادة الدكتور صلاح الّذي حدثنا عنها بلسانه حين قال”فهي غرفة تجمع بين اللونين الأزرق والأصفر، جمعت فيها كل ما أحب من كتب واسطوانات للموسيقى ولوحات”.

الحديث عن الروايات فتح باب الصداقة على مصراعيه بين أحلام وصلاح، فأصبحا يفتقدان بعضهما البعض، وأصبح كلّ منهما جزءًا من الآخر.

تظهر روح أحلام المعطاءة، والمحبة للخير، فنجدها تسارع في مساعدة الآخرين، فمثلًا تقوم بمساعدة أحد الشباب في الحصول على وظيفة وغير ذلك من الأعمال الإنسانية.

الرؤية الفكريّة

تتجلى الرسائل الإنسانية في الرواية بوضوح شديد، فبينما نتوغل في شخصية أحلام من خلال أحلامها وتعمقها في الشخصيات ومحاولة تغيير مصائرهم إلى الأفضل، بل ومحاولة تغيير نهايات الروايات، ندرك تمامًا أن أحلام إنسانة محبة للخير والعدل ونشر القيم المجتمعية السليمة، فهي تدحض الظلم، وتتمنى النهايات السعيدة للبشرية وفي هذا رسالة؛ أن الإنسان خلق لتعمير الأرض.

وقد تعرضت الرواية إلى الكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية الّتي حاولت الروائية تسليط الضوء عليها، مع محاولة حلها واقتلاعها من جذورها وهو الدور الذي تقوم به الروائية نهى في الواقع، فهي البلسم الشافي لكل من عرفها. 

الشخوص في الرواية

١- أحلام عزيز، وهي الشّخصيّة الرئيسية في الرواية؛ هي سيدة مثقفة ذات وجه ملائكي كما وصفها لنا الضابط حازم، يتصف بالرقة والحنان، في الخمسين من عمرها، ذات بشرة وردية ووجه دائري تلبس الحجاب، كما أنها صغيرة الحجم.

وهي مولعة بالقراءة بحيث أطلقوا عليها لقب قارئة الكتب، تعرف تفاصيل ونهايات الروايات قبل الانتهاء منها، كما أنها تضع نهايات أحيانًا تختلف عن النهايات الحقيقية حتى تتناسب مع شخصيتها؛ فمثلا تشرح لنا في إحدى الصفحات كيف غيرت نهاية رواية “أنا خير منه” لبهاء المري فتقول: “أنا في ذهني غيرت النهاية؛ أقنعت خطيبها بالذهاب إليها في أسيوط ليقول لها: سنكمل الحياة، وسننجب حمزة آخر يحب الله ووطنه”.

ولع أحلام بالقراءة خلق منها سيدة يختلط عندها الخيال بالواقع.

قارئة نهمة تحدثنا عن قراءاتها وصديقاتها من مختلف أنحاء العالم، وهي تتصف بالمرح كما وصفها الدكتور صلاح الراعي.

٢-حازم محمد علي الضابط الطيب الّذي يتحدث لنا عن أحلام، ضابط شاب، أسود الشعر، أسمر، ضخم الجثة، مفتول العضلات، ملامحه بريئة، يتصف بالحنان والعطف.

٣- الدكتور صلاح الراعي وهو الشّخصية الرئيسية الثانية في الرواية، طبيب نفسي، يتصف بالشهامة، والرفق والهدوء والوقار، تعرفنا على صفاته من أحلام، في العقد السادس من عمره، طويل، خمري اللون، أسود الشعر،  عيونه بنية، ملامحه وسيمة، خاصة بشاربه ولحيته الفوضويين، وهو طبيب ومهندس، متتطوع في مستشفى الأمراض العقلية في المعمورة، وقد درس الهندسة والطب لإرضاء أبيه.

٤- هدى خالتها ورفيقة روحها الّتي تستعيد ذكريات طفولتها وعائلتها معها، وتحاول أن تهدئ من روعها بسبب ألمها من زوجة ابنها الّتي لا تجد فيها القبول.

المكان: دارت أحداث الرواية في الاسكندرية الّتي تقطنها أحلام والّتي أتوق لزيارتها كما أصدقاء أحلام.

الزمان: لم تشر الرواية إلى زمن بعينه ولكن من خلال الأحداث يتبين لنا أنها تتحدث عن زمننا الحالي

تقنية السرد: السرد جاء خطيًّا استطراديًّا، مع الاعتماد على تقنية الاسترجاع في بعض الأحداث، استخدمت الروائيّة ضمير المتكلم لشخصية أحلام والضابط حازم  والدكتور صلاح لنكون أقرب إلى الشخصيات، بحيث أنها عنونت الفصول باسم الشخصيات الّتي تناوبت السّرد، فتحدثت لنا أحلام بصوتها، كذلك الدكتور صلاح والضابط حازم.

وقد استخدمت تقنية سرد اليوميات، لتجعلنا نعيش اللحظات معها في الأحداث ونكون أقرب إلى روحها. كذلك كان لتقنية الأحلام دورها الواضح في عملية السرد.

تصنف الرواية بأنها اجتماعية من أدب الواقع، وهي إضافة نوعية إلى رفوف المكتبات العربية.

--------------------------

“هذا جناه الأدب على أحلام”، رواية للأديبة المصريّة نهى عاصم، صدرت عن دار غراب للنشر. تقع في ٢٣٨ صفحة من الحجم المتوسط.

*كاتبة وروائية، مهندسة مدنية من القدس، تقيم حالياً في شيكاغو.

عرض مقالات: