اخر الاخبار

تضمن الكتاب الجديد (الوطن.. ذاكرة لا تغفو) للأستاذ الباحث والمؤرخ أحمد الناجي كشوفاً عن الباحث المعروف عدنان الحسيني وهو يمثل تدوينات بعنوان (مائة عام من ذاكرة وطن.. أضواء على أبرز الأحداث والمواقف السياسية للمجتهدين في العراق منذ الحرب العالمية الأولى عام 1914). وتكرس جهد الحسيني حول تقديم إضاءات تاريخية عن ثنائية التشارك الحواري بين السياسة معبراً عنها بالسلطة والقوى الروحية/ الدين وتمثيلاته/ المرجعية. ولم تكن هذه الثنائية متماثلة ومتجاورة بالحوار فيما بينها، بل خضعت الى التباين اقتراباً وابتعاداً، توافقاً بالرأي واختلافاً وتشاكساً. وما يميز دراسة الأستاذ الحسيني أنه ذهب فاحصاً لفترة تاريخية واسعة، امتدت لما يقارب القرن أو أكثر، وواضح أنها فترة تعكس تاريخ العراق الحديث. وينفتح هذا الجهد البحثي الواسع والعميق على حفريات وجهود تميزت بالذكاء في مراحل لها خصائص وسمات جعلتها ذات حضور جوهري، يقدم مساعدات في الفحص والتأويل والتشارك من قبل الكفاءات والطاقات الثقافية والسياسية من أجل التشارك بالحوار الهادئ وقيادة الانفتاحات نحو فضاءات لا تنغلق، بل تنفتح وتوفر فرصاً جوهرية للنقاش، لأن الاتساع يقدم تجوهرات تفاجئ المتلقي لحظة الإشارة لها والاعلان عنها كل ذلك من أجل تقديم فحوص جديدة ذات ثقة في تعاملها مع فواصل التاريخ المشارك بتكوين الذاكرة الممثلة للمدونات التاريخية والتي تعني بكل شبكاتها العديد من الفصول المعنية بمكون سردي خاص، ينفرد بقراءة التباين/ الصراع/ الجدل/ الاختلاف/ التعايش. ومعرف بأن السياسة والدين يقدمان نوعاً من التباين والفحوص غير المرنة وهذا يحتاج عقلاً باحثاً، تزداد ملامحه المرنة ثقافياً وفكرياً، مما تفتح منافذ محفزة للقراءة والاستفسار والتأويل، لكن الأستاذ أحمد الناجي قدم إلتماعة سريعة ضمن قراءته لهذا المنجز هي أن الباحث الحسيني أسهم بترصين الذاكرة العراقية بالمعلومة المحايدة، وتحصين الذات والأخر بتقديم اطروحات تتبنى مصلحة العباد والبلاد. وتميزت مدونة الأستاذ عدنان الحسيني بشموليتها التي امتدت كثيراً وهي تكشف ما اقتدرت عليه في شعاب الماضي، معمقة من خلال ذلك أشكال الجدل واتساع الاختلاف والتضاد السياسي والتنافر الطائفي. ومثل هذا الاهتمام والعناية يعود التأويل متنوعاً ويتغذى من الأجزاء المكونة لمساحته الواسعة جداً في هذا الجهد الثقافي العميق وعدم اغفال تأثيرات الأطر الخارجية وما تمنحه من إضاءات ذات تأثير على الرأي بمفهومه العام وعدم اغفال دور الدين وما يتضح له من أثر وانعكاس لا يمكن تجاهله، لأن الدين منذ الابتداء تميز عن السياسة بنوع مع الاختلاف مع ضعف ما يميزه من مرونة. ولعل ملاحظة العنف بين الدين والسياسة غير مخفي، حيث كان للدين مشاكسات أفضت للتناحر في لحظات تدخلت المرجعيات بقوتها للتوجه اللافت للانتباه والمثير وهو السعي لإقامة علاقة أو حوار بين المتدني/ السياسة والمتعالي/ الدين في محاولة لإبراز ما يروم اليه الموقف الثقافي والمعرفي الوطني. وقال الأستاذ الناجي حتى نتمكن من تلمس ما نريد بين هذه المكونات التي أشار لها البحث الذي لم يغفل دور الباحث الحسيني في ما أنجزه عبر سياحة ممتدة طولاً وعرضاً، تميزت بالتشويق وتقديم الكشوفات عن التاريخ الوطني للعراق، حيث قام بمراجعة تقييمية ذات رؤية محايدة، لكنها لم تنس الموقف الديني للمرجعية تجاه العديد من المجالات والأحداث السياسية، وسعى لكشف الدور الممنوح لها في الحياة العامة، وما تخلف لها من أثر بين أوساط المكونات المجتمعية، ومن أجل الوصول لهذا الهدف بطريقة جيدة وسليمة، مما يتطلب الاعلان عن العلاقة الواضحة والضرورية بين التاريخ والسياسة، الى جانب مراقبة القوى والحركات السياسية المتميزة بالفاعلية ضمن الموجودات السياسية في الوطن، وتقصي العلاقات والارتباطات الواضحة للعيان والكشف عن المطلوب من المكونات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للتعريف بمعطياتها في الواقع المعاش.

وأكد الأستاذ أحمد الناجي على ورغبته لتسليط الضوء على الجزء الأول الذي احتوى أبرز الأحداث والمواقف السياسية المعنية ببعض رجال الدين، منذ الحرب العالمية الأولى التي ابتدأت سنة 1914 مستتبعاً المجريات التاريخية كافة حتى منتصف سنة 1979. ولا بد من الإشارة الى أن الحسيني سيواصل بحثه ممتداً ومنجزاً مكملات الجزء الثاني للفترة بين 1979-2003 والثالث من بداية تغيير النظام السياسي المستبد بفعل العامل الخارجي (الاحتلال الأمريكي سنة 2003)، ولأن الأستاذ أحمد الناجي لديه عقلية مؤرخ ولديه خبرة متراكمة بالجانب السوسيولوجي والثقافي الديني.. يرى بأن تاريخ الأحداث والوقائع يعرفها الأفراد والجماعات تحدث مرة واحدة، لكنها تكتب مرات عديدة من قبل شخصيات ثقافية تتمتع ببعد سوسيولوجي، لقد قدم الناجي تصوراً تعريفياً حول أسباب وأهداف دراسة التاريخ، من حيث أنها “تنطوي على الإجابة عن خمسة أسئلة، الأربعة الأولى منها هي الآتية: من، ماذا، متى، وأين، واستفهامات هذا المنحى في الحقيقة ترمي الى التحري الدقيق والاحاطة الشاملة من كافة الوجوه بمجريات الأحداث والحوادث التاريخية، أما السؤال الخامس فهو ينطوي على طرح استفهام: (لماذا) بوجه محصلة الإجابة حول الأسئلة الأربعة الآنفة الذكر”.

كما نجد ان اهتمام الباحث والمؤرخ يزداد بانضمام الاستقراء الى جوامح التدوين التاريخي والذي يعبر فيه عن رؤيته حول المستقبل لأن المبتغى من كتابة التاريخ لا تتحقق أذا كان سرداً للماضي من دون وجهة نظر شاملة. وقال أخيراً: “تنبع أهمية هذا الكتاب من خلال ثراء محتواه التاريخي، ولست أبالغ في شيء لو قلت، بأن المثير للانتباه هو التوسع في مضان البحث عبر الحفريات التنقيبية التي تغور في أعماق الأزمنة”.

لقد اهتم الحسيني كثيراً واتضح ميله للحراك الوطني والتجمعات الشعبية، ودرس ما ساد من علاقات في الحركات المجتمعية ذات الحس الوطني الواضح. واعتنى بالحركة الانقلابية الفاشلة التي قادها حسن السريع بتاريخ 3تموز 1963 وهو شيوعي برتبة نائب عريف في الجيش العراقي.. وجاءت في مواجهتها ردة فعل قادة انقلاب 8 شباط الدموي تحمل غرابة التفنن في تهيئة مجزرة بشرية رهيبة، يعدها المؤلف في تحليله السياسي الشخصي من أنها أحدى المعطيات التي فتحت نافذة جريئة، وشرعت لها الفتاوى المعنية بالتكفير. وأهم ما يمكن الإشارة له بـ(قطار الموت)، ففي هذه التجربة التراجيدية اقترب الموت الى أبرز الشخصيات الوطنية والثقافية والعلمية، وهي تجربة فريدة للغاية. وكان السجناء قد أوشكوا على الموت اختناقاً من شدة الحر التموزي الساخن لولا بطولة سائق القطار (عبد عباس المفرجي) عندما تسابق مع الريح في اسطورة بطولية لم تعرفها التواريخ السياسية المحفوظة بالذاكرة. عاشت اسطورة القطار، واستمرت سرديتها متنامية، تتداولها الاجيال بوصفها حدثاً مجيداً في تاريخ الحركة الوطنية والديمقراطية في العراق.

ما قدمه الناجي فحصاً وقراءة بليغة وعميقة عارفة بشكل جيد بثنائية العلاقة بين السياسة والدين، أضاء فيها ضرورة العودة الى كتاب الحسيني لما ينطوي عليه من مضامين مقترنة بمصادر في غاية بالأهمية.

عرض مقالات: