اخر الاخبار

كلما أوشكنا الكتابة عن الفنان مارسيل مارسوا، يصيبنا نوع من التردد، والحيرة، والقلق، فنؤجل الموضوع إلى غير ما مكان وزمان. والمشكلة هنا لا تكمن في البداية فقط وإنما في النهاية أيضا.

من أين نبدأ بالحديث عن فنان فضل الصمت على الكلام؛ فضل أن يصرخ بصمت حدّ أن بات هذا الأخير، كل حياته بل موسيقاه الداخلية. هل يمكن أن نقول عنه اسطورة؟ وهل توجد كلمة أخرى لتعريف هذا الشخص الذي لم يخترع أو يتغنى بفنه، وإنما جسدّ التمثيل الصامت بشخصه. إن مارسيل مارسو، هذا الفنان الممتنع عن الكلام، قادر على اختصار العالم بإشارة، والانتقال من حالة لحالة بحركة، أو تكشيرة وجه أو مجرد برطمة. إذن، لا بد لنا من الحديث عن الصمت لدى مارسيل مارسو، الصمت وليس الموت، ذلك الصمت المتسائل، المستفهم، بقوة وإصرار غامضين. الصمت الممتلئ بكل ضوضاء العالم، المليء بالمآسي والآمال في ذات الوقت؛ الصمت السحري الذي يختصر الوهم والحقيقة معا، ويحكي قصصا كثيرة عاشها كل منا ومرّ بها ولكننا نعجز عن التعبير عنها بالكلمات التي تعتبر في هذا المقام، فضة، والصمت ذهبا.

إن المسيرة الفنية لمارسيل مارسو، لم تكن معروفة من قبل معظم الناس، وقد كانت مثالية بمعنى الكلمة. ولد مارسيل مارسو بتاريخ 22 مارس 1923 في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، ومضى طفولته فيها حتى سن الخامسة عشر، ووفقا لأستاذه للغة الفرنسية كان يعتبر أفضل الطلاب في الإلقاء، ومع ذلك فضل الصمت على الكلام. وقد أرغم على مغادرة مسقط رأسه إلى مدينة بيريجو، غداة الاجتياح الألماني لبلاده في الحرب العالمية الثانية، وتغيير اسمه لإخفاء أصوله اليهودية، فأصبح يدعى ميكل بدلا من مارسيل مارسو. أكمل الشاب الصغير مارسو تعليمة في مدرسة ليموج. وقد قبضت الجستابو لاحقاً على والده الذي كان يعمل قصابا، عام 1944، ورحلته إلى معتقل أوشفيتس النازي ببولندا حيث توفي هناك، وهذه الحادثة تركت بصماتها في شخصيته وأعماله الإنسانية.

تحت تأثير أبن عمه جورج لوانيه، أنضم مارسيل مارسو إلى المقاومة عام 1942 في ليموج. وقد انخرط في القوات الفرنسية الحرة، وأصبح همزة وصل واتصال ما بينها وبين جيش الجنرال الإنكليزي باتن، بفضل تمكنه من اللغة الإنكليزية. وبعد تردده على مدرسة الفنون الزخرفة والديكور في ليموج، التي جعلت منه متذوقا كبيرا للتخطيط والرسم الذي ظل يمارسه بشكل منتظم، أصبح تلميذا لشارل ديلان، وجان لوي باروا، وإتيان دكرو، الذي وضع قواعد الفن الصامت، وكان يطلق على مارسوا تسمية (التمثال المتحرك). من خلال الفن الصامت أو بالأحرى، مثلما كان يطلق عليه ميمودراما، حاول مارسو أن يعطي أشكالا لأفكاره التي غالبا ما تكون مأساوية، من خلال الحركات. فالكلام، مثلما يقول مارسو، ليس بضروري من أجل التعبير عما يعتمل فوق القلب.

بتاريخ 22 مارس 1947، أي في عيد ميلاده الرابع والعشرين، خرج مارسيل مارسو من ظلال الكواليس بشخصيات مضحكة باكية، تمشي وحيدة بحركات خفيفة، فولدت شخصية (بيب)، وبيرو لينير، بعينين دامعتين، وفم أحمر ممزق، ووردة حمراء على قبعة الرأس المتهالكة أحيانا، يحارب طواحين الوجود مثل دون كيشوت. إن شخصية (بيب) التي اشتهر فيها مارسيل مارسو، شخصية حساسة، وشاعرية، مستوحاة من دبرو، وشارلي شابلن، ومن رواية (الآمال الكبيرة) لتشارلز ديكنز. وقد سمحت له هذه الشخصية لأن يبحر ويكتشف ويكشف عن الحياة والمجتمع المعاصر، وأن يسلط الضوء على جوانبهما المأساوية. في عام 1947، أسس مارسو فرقته الخاصة، التي تعتبر فرقة التمثيل الصامت الوحيدة الموجودة في العالم، وقدم من خلالها: مسرحية (المعطف) لكوكول، عازف الناي، تمارين في الأسلوب، مصارع الثيران، السيرك الصغير، باريس التي تضحك، وباريس التي تبكي، وإلى آخره من الأعمال. 

لقد أصبح مارسيل مارسو على مر السنين واحد من أكثر الفنانين الفرنسيين شهرة في جميع أنحاء العالم. وقد تغيرت ذخيرته الفنية على مر العقود، ومع ذلك ظل يؤدي عروضه الكاملة في الولايات المتحدة وبلدان أوربية أخرى، إضافة إلى استراليا واليابان حيث اعتبر (كنزا وطنيا). وقد خلق ثورة مسرحية حقيقية، خاصة من خلال حركة (المشي ضد الريح) التي اقتبسها منه المغني والراقص الزنجي الأمريكي مايكل جاكسون في (رقصة القمر). وهكذا ظل يتابع مارسيل مارسو أعماله فوق أكبر مسارح العالم، رغم تقدم العمر فيه. وقد تضمنت عروضه الكثيرة العديد من الأدوار، كما في لوحة (الخلق) التي صور فيها بداية الخليقة من خلال اصطفاف أصابع يديه الطويلة النحيفة، مقلدا حركة الأسماك والطيور، منتهيا بخروج آدم وحواء من الجنة. إن التمثيل الصامت بالنسبة لمارسو يعبر عن موسيقى وتطلعات الروح، فهو يقول: (حين تقوم بتقليد الريح فلابد أن تصبح ريحا عاصفة، وإذا قلدت السمكة في حركاتها فأنك تقذف بنفسك في أعماق البحر).

وفي عرض (شباب، شيخوخة وموت) صور مارسيل مارسو في أربعة دقائق، مباهج الحياة ومآسيها باختصار تجاوز فيه سرعة واختصار السينما للعديد من الروايات والمسرحيات المكتوبة بمئات الصفحات وآلاف الكلمات. وقد بدأ مارسو في بداية اللوحة، ملتفا على نفسه تماما كالجنين، ثم ينتقل بهدوء وسرعة نحو مرحلة الشباب، ثم يتكوم على نفسه مثل عجوز ينتظر الموت بعدما أرهقته الحياة بمتاعبها. وفي عرض (المحكمة) جسد مارسو دور المتهم، والقاضي، وهيئة المحلفين، وأخيرا الجلاد. ولعبت إحدى يديه في مشهد آخر دور الشر، واليد الأخرى دور الخير، وهكذا ظلتا يتصارعان ويلتفان حول بعضهما البعض في حركة دائرية حتى انخرطت أثنتاهما في صلاة طقسية. وفي عروض أخرى، استحضر مارسو ريحا خفية راح يكافح ضدها، وكذلك قفصا وهميا هو داخله يحاول الهروب منه.

بعد هذا الاستعراض الموجز لبعض عروض هذا الفنان الصامت الممتلئ بالعديد من الأصوات، تجتاح رأسنا أسئلة. أولها، كيف يمكن أن نعرف التمثيل الصامت، بعيدا عن الكلمات والمفاهيم الفكرية، التي تعتبر في الكثير من الأحيان، الأكثر أهمية؟ والجواب في تقديرنا، يكمن في المسرح الذي يصبح فيه التمثيل الصامت، ساحرا للفضاء، وخالقا لهوية العالم الكونية، لاسيما أنه، بموجب، مارسيل مارسو، مثل الموسيقى، لا يعترف بجنسية أو حدود. لقد كان مارسو عندما يقلد الريح، يصبح مثلها، ريحا عاصفة، في كل وزنها وحجمها. وعندما يؤدي حركة المشي، يعطينا الانطباع بأنه يكافح ضد هذه الريح التي تمنعه قوتها العاتية من التقدم والسير قدما. وهكذا يصبح أو يعني التمثيل الصامت، في هذه الحالة، مجموع اتحاد هذه العناصر التي يعبر عنها مارسو من خلال أسلوب البانتوميم، الذي هو باختصار شديد: يجمع الرمزية، التعبيرية، والسريالية، معا.

إن التمثيل الصامت، يحيل ما هو متخيل إلى واقع، من خلال إظهاره لما هو غير محسوس، مثلما يجسد الاتفاقيات، والسجايا، والحلم والحقيقة، ومأساة وهزل الحياة اليومية. إنه في الأساس فن التحولات، الذي يعمل على إظهار الأشياء من خلال نحت الفضاء ومحو اللحظات التي قام بخلقها منذ قليل. وبما أن التمثيل الصامت فعل وحيد، وربما لأنه كذلك على وجه التحديد، يكون وسيطا بين الحياة والبقاء، وبين الحركة ونقيضها، أي الموت. إن عروض التمثيل الصامت، تعطينا الانطباع دائما بالحزن، والتركيز المكثف وتجعلنا ننتظر ونتمنى ما هو مفرح. إنه في مواجهة دائمة مع الواقع المؤقت الزائل، يعرض قضايا الحياة والموت، وما هو رمزي وواقعي. فالمسرح يحاكي الحياة، الموت والولادة بامتياز، في وقت قصير، وإنه أولا وقبل كل شيء، فعل جسدي شعري، وهذا بحد ذاته، يفرض على الممثل الصامت أن يكون موسيقيا في روحه وراقصا، ورياضيا يعرف كيف يلعب بين الفضاء والزمن، ويكون قادرا على اعطاء الصمت صدى، ويجعله يرتجف، ويرتعش، وبليغا مثل الكلام. فهذا الفن، مثلما يقول جان كوكتو، يحتاج إلى تركيز عال وسيطرة كاملة ومحكمة على الحركة، مثلما يحتاج إلى تحول مطلق وتبدل وتغير باستمرار، لأننا كلما تحركنا بمزيد من الدقة في التعبير، كلما أدركنا أكثر بأن هناك عناصر تهرب منا. وإن طرح ومعالجة هشاشة الحياة يمكن أن يخلق لدى المشاهد الشعور بالحزن.

إن فن التمثيل الصامت يكشف دفعة واحدة، ما هو عليه وعلى ما يقوم به الآخرون. إنه فن الصمت المصنوع من الشعر. إنه يُترجم بلا عدوانية، مواضيع تشبه إلى حد كبير الهوس، من خلال موسيقى الصمت. ويتصدى لهذه الحالة العاطفية الخاصة من خلال الماضي المشوه، وفوضى الذكريات، والتعرجات البعيد لحياة الإنسان المعاشة.

أين هي الحقيقية؟ وأين هي الأوهام؟ كل حياة عبارة عن سلسلة من الخيانات وعدم الإخلاص، مثلما هي أيضا، تمزق دائم وذرف دموع سواء في الأفراح أو الأحزان، وهذا ما يكشف عنه مارسو من خلال فن التمثيل الصامت. يقول مارسو: (الناس مليئين بهذه العواطف، بحيث لم يعد يفاجئهم شيء. لهذا فلابد من جعلهم يكتشفون العواطف الكبيرة للحياة، من خلال مزج الصمت، والموسيقى، والخيال). إن مارسو من خلال بحثه الشخصي المستمر في فن التمثيل الصامت استطاع أن يقود الجمهور في كل عروضه، إلى اكتشاف نفسه. وكأنه، بحركات جسمه وامتداداته المتنوعة، مرآة شفافة تكشف للجموع الجالسة في الصالة المعتمة عن نفسها.

إن التمثيل الصامت فعل مقدس، طالما أنه يقدس الحركة. والحركة التي لا تستطيع أن تقدس الإنسان، فهي حركة سوقية مبتذلة. لهذا يعتبر هذا الفن، نبيلا، وخلاقا، لأنه، يتجاوز حدود الظواهر، والتجارب، والمواقف. إنه يذهب إلى نبع الأشياء وإلى جذور العاطفة الإنسانية نفسها.

عرض مقالات: