اخر الاخبار

لندن- خاص

صدرت عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكُتّاب في العراق المجموعة القصصية الأولى للقاص ميثم الخزرجي تحت عنوان “بريد الآلهة” التي فازت بالمرتبة الثالثة في المسابقة الأدبية لنتاجات الأدباء الشباب عام 2019. وقد ضمّت المجموعة تسع قصص قصيرة مختلفة الأطوال يتعالق بعضها مع الأساطير السومرية القديمة، ويوظّف البعض الآخر الموروث الشعبي العراقي المستقرّ في ذاكرتهم الجمعية المتوهجة، بينما ينهمك القسم الثالث منها بهموم الطبقة الكادحة التي تشكِّل ملح الأرض في المجتمع العراقي المعاصر. ورغم أنّ “بريد الآلهة” هي المجموعة القصصية البِكر لميثم الخزرجي إلاّ أنّها تكشف عن موهبة أدبية واضحة تتجلى بلغته الأنيقة المتدفقة، وقدرته السردية السلسة، ومعالجته الذكية للثيمات الرئيسة والفرعية، وإمكانيته الفائقة في رسم النهايات الفنية التي تعْلق في ذاكرة المتلقين.

لا يمكن اختصار قصة “مُصادفة لا يقبلها الصفح” بالخيانة الزوجية وجشع التجّار الذين يتحكّمون بمصائر الناس، ويتلاعبون بمقدّراتهم، ذلك لأنّ البنية السردية بإيحاءاتها، ورموزها، ولغتها المجازية تنفتح على شريحة الحمّالين وهي جزء أساسي من الطبقة العمّالية التي تعيش بكدِّ اليمين وعَرَق الجبين لتؤمِّن هاجس الطعام لأُسرَها الفقيرة المُعدَمة فلاغرابة في أن تكون حاضنة لأمراض المجتمع الناجمة عن مشكلات اقتصادية وثقافية تجبر أصحابها لأن يضعوا ثقتهم في الغيبيات، ويلهثوا وراء السحرة والمنجّمين ولا يجنوا في خاتمة المطاف سوى الخيبة والخسران. 

تتآزر في هذه القصة اللغة الموحية مع الحبكة الرصينة التي انطوت على أحداث يتفجّر بعضها في مخيلة مرهون الذي يأخذنا إلى الحورية التي عطّلت نشاطه الجنسي، ويتشظى البعض الآخر في ذهن مرزوقة المتوقد التي استدرجت الصبي سعد لتعرف ما الذي أبصره بالتحديد في ليلتها الحمراء فكان جوابه الذكي المُطمئن:”لم أشاهد شيئًا، بل كنتُ أرقب القطة التي أكلت فاختتي”(ص16).

يُنهي الخزرجي قصته بضربة فنية تشبه الومضة التنويرية التي تنعكس في مخيلة المتلقي ولا تغادره أبدًا بينما نتذّكر نحن “زعيم آخر يناور أجسادنا على طاولة القانون”(ص18).

قد تقتصر القصة على شخصية واحدة، وينحسر المكان إلى غرفة واحدة، ويتقلّص الزمان إلى دقائق معدودة كما حصل في قصة “الغرفة” الصغيرة التي تحتضن “رؤوف” المُولع بالرسم الذي يحاول “أن يرسم شخصًا ببذلته الجميلة وقوامه الرشيق غير أن فرشاته توقفت عند ملامح ذلك الشخص”.(ص22) وعندما حاول أن يستذكر ملامح غالبية البورتريهات التي رسمها اكتشف أنها بلا ملامح، والأدهى من ذلك أنه “وجد الأشياء جميعها غارقة بالتيه”(ص22) ثم يلج في دوّامة الأسئلة الفلسفية التي تبدأ من عالمه الذاتي وتنتهي بالعالَم الموضوعي.

يتواصل السؤال الفلسفي الذي طرحه في القصة السابقة ويجد طريقه إلى قصة “لنعد إلى الباب” التي يستذكر فيها ما حدث له في أحد الأماكن العامة ليكتشف أن ملامح وجوه الناس والأمكنة والدرابين باهتة ومشوّشة وقد انتهى به المطاف إلى هذا الكون المغلق. وحينما راجعَ معظم اللوحات التي رسمها وجدها بالضبابية نفسها وكأنه يعيد السؤال الذي طرحه في قصة الغرفة:”نحن المنغرسون في العدم متى تتضح هُويتنا؟”(ص22).

يرصد الخزرجي شخصيتين مهمتين في قصة “صراخ متئد” كلاهما تؤثث المكان بشكل من الأشكال، فالمجنون الذي تستبشر النسوة خيرًا بطلّته اليومية يصرخ بمقولة صادمة لا تصدر إلاّ عن مفكر عميق:”الحياة سجن كبير كبير. . . نحن نشيخ وأوجاعنا فتيّة”(ص26). أمّا المعلّم وليد، الشاب الأنيق الذي يتأبط كتبه فقد أصبح مثالاً يُحتذى به من قِبل الراوي ولا يتردد في تشجيعه على القراءة التي توسّع مدارك الإنسان وتحفّزه على استغوار الذات ومعرفة الحقيقة. وهو يريد لهذا التلميذ أن يواظب على القراءة والعمل في آن واحد شرط أن يصل إلى الدراية والإشراق بعيدًا عن العاطفة التي سرعان ما يخبو بريقها ويصبح أثرًا بعد عين فلاغرابة أن ينظر المعلّمُ إلى الشيخ “المجنون” كعلامة فارقة من أبجديات المكان.

تنطلق الأحلام، في الأعمّ الأغلب، من نتوءات واقعية. وقصة “ما لا يدركه الحلم” هي رغبات يسعى الراوي إلى تحقيقها سواء في تجليات الحلم أو في الواقع الأسيان. وقد انبثقت هذه الأحلام في سنّ العاشرة حتى مشارف العشرين. ففي العاشرة كان مُغرمًا بركوب الدراجة الهوائية وقد تحقق هذا الحلم على يد والده. وفي سنّ الخامسة عشرة حَلُم أن يقبّل “ميّادة”، البنت المدللة، وفي سن التاسعة عشرة حلُم أن يقرأ سارتر وفلسفته المبهمة. تُرى هل يمكن أن يحقق الراوي كل الأحلام الشاسعة التي راودت مخيلته أم يكبحها ويغرق بأحلام اليقظة الراكسة في التيه؟

لا تخرج قصة “صرير الأمكنة” عن التعالق مع الأساطير العراقية، فـ “هديدة” المبهرة الجمال التهمها النهر لأنوثتها الأخّاذة بعد أن تحوّل إلى “شبح يقبض الأرواح”(ص45) لكن فكرة الثأر سرعان ما خطرت لوجهاء القرية فقرروا طمره كي يدفنوا معه كل البراثن التي ألحقها بهم لكنهم فوجئوا بتدفّق نهر فرعي لا يفصله عن النهر الأصلي إلاّ صورة “هديدة” التي أصبحت ملاذًا للعاقرات، كما سُمّي النهر الجديد بابن “هديدة” تيمنًا باسمها المبارك وتبجيلاً لوشمها الذي “أُودع لفتيات القرية كعرفٍ اجتماعي على أصالة الشرف”(ص46).

تتكرر تقنية الحقيقة والوهم في قصة “بريد الآلهة” حينما يلج كامل شمعون، أستاذ علم الأساطير واللغات القديمة إلى “تل بشارة” ويصل إلى العالم السفلي حيث يجد نفسه مذنبًا بحق الآلهة لأنه كان يبحث عن كتابهم المقدّس وتعاليمهم المدوّنة فيه. وحينما يلتقي بمجلس الآلهة يطالب بحريته والعودة إلى عالمه الأول. وقبل أن يعتقوه يسألونه عن الفرق بين العالمَين؟ فيردّ من دون أن تعقد الدهشة لسانه:”أنتم لا تختلفون عنّا كثيرًا فالوجع الذي ننغمس به قد توارثناه منكم”(ص61). وهذا ما يؤكده كبير الإلهة حين يقول:”سرّ الوجود واحد والطبيعة بتناقضاتها واشكالياتها واحدة أيضًا”(ص61).

تصلح أحداث قصة “أسئلة محرّمة” أن تكون مادة لـ “نوفيلا” وذلك لانطوائها على شخصيات وأحداث كثيرة متشابكة ينتقد فيها الراوي السلطة، والواقع العراقي الذي نخرته التحولات السلبية التي طرأت على المجتمع العراقي في الآونة الأخيرة. كما تُعد هذه القصة أنموذجًا للأدب التحريضي الذي يدعو أهالي المدينة إلى الانتفاضة في أقل تقدير. فيما تنحسر القصة الأخيرة إلى هاجس يراود السارد وهو يتأمل عبارة جدّته التي تقول:”إنّ الله جعل من ظلالنا خفرًا علينا” لتفرض هيمنتها على حفيدها الموغل في العبث.

“بريد الآلهة” تُعدّ أنموذجًا مكتملاً لمجموعة قصصية ناجحة.

عرض مقالات: