اخر الاخبار

ولد برتولت برشت في 10 فبراير 1898 في عائلة تجارية من مدينة أوغسبورك الألمانية، وسرعان ما أسره حب المسرح والانشغال بهِ وبهمومهِ وأبعده عن البيئة التي نشأ فيها، والمهنة التي مارسها في أوائل عمره وتحديداً في سن العشرين. كان برشت منشغلاً بالفعل بكتابة ومراجعة بعض المسرحيات الجريئة وذات الطروحات غير النمطية. في سن 22 كان قد أنهى مسرحياته الأولى (البعل) و(طبول في الليل). وفي سن الرابعة والعشرين، أصبح ممثلاً للدراما في مدينة ميونيخ الألمانية، وبعد عام عمل مع الكاتب الكبير ماكس راينهارت في برلين . وأتيحت له الفرصة من خلال وجوده مع ماركس لتطوير المفاهيم الأولى لـ (المسرح الملحمي).

والمسرح الملحمي قائمٌ على الضد من المسرح التقليدي، وهو يهدف إلى إبعاد الجمهور عن الواقع الخيالي للحدث من خلال التعليقات والسرديات والتأملات. وعلى المشاهد ألا يتعاطف مع الشخصيات التي تصورها المسرحية ويبتعد عن عالمها، وعليه أن يتخذ موقفاً نقدياً عما يدور على خشبة المسرح، كما يتوجب عليه أن ينأى بنفسه عن التعاطف والانغماس مع أحداث المسرحية، وكذلك يتوجب على المشاهد أن يتعرف على الواقع الخيالي للمسرحية وينقلها إلى حالة للمعالجة النقدية بشكلٍ واضحٍ لا يقبل اللبس  .

وفي عام 1933 أضطر برشت بالهجرةِ إلى المنفى. وكتب في كاليفورنيا أشهر أعماله: (الأم الشجاعة وأطفالها)، وهذهِ المسرحية التي كُتبت في العام (1939) تروي وقائع أحداث حرب الثلاثين عاماً  . كما إن التلميحات التي تشير إلى هجوم هتلر على بولندا كانت ظاهرة ولا لبس في هذهِ المسرحية. والمسرحية تتناول الحرب من وجهة نظر الأشخاص الصغار والمعدمين في المجتمع، وليس من منظور دعاة الحرب (الكبار والمتسلطين على رقاب المجتمع): وكان يتعين على الأم الشجاعة أن تدافع عن نفسها وأطفالها في أوقات الحرب الصعبة. وبغض النظر عن مدى ذكائها وخبرتها كونها عاملة ترتزق من جراء الحرب، فإن جشعها للربح كان واضحاً وجلياً على شخصية الأم، هذا الجشع الذي يطغى في أحايين كثيرة على غريزة الأمومة عندها، فهي تكسب الكثير من الحرب، التي يقع أطفالها فيها ضحية لها في النهاية.

في عامي 1940/41، بقي برشت في فنلندا، حيث كان يعمل بشكل مثمرٍ للغاية، وكتب العديد من نصوصهِ هناك. بالإضافة إلى المسرحيات والنصوص التي كانت ترمز إلى الطبقات المترفة من المجتمع، وتسلطها على رقاب الكادحين من الطبقة المعدومة، وما مسرحية (الرجل الطيب من سيزوان) إلا مثالاً واضحاً لتك الرمزية. وكذلك مسرحية (الصعود المقاوم لأرتورو أوي)، كما كتب أيضاً المسرحية الشعبية (السيد بونتيلا وخادمه ماتي) أثناء وجوده في المنفى في شمال أوروبا. وبعد الحرب، ذهب برشت إلى ألمانيا وفي 14 أغسطس 1956 توفي بنوبة قلبية في برلين.

هل كان برشت مصلحاً عالمياً؟ (لقد امتلك برشت هذهِ الخاصية)، كما يقول الباحث الأدبي والأستاذ السابق للأدب الألماني الحديث في جامعة أوغسبورغ، د. هيلموت كوبمان، (على الرغم من بعض جنون العظمة، التي كان يشعر بها برتولت برشت، لكنني لن أستطيع أن أصفه بأنه فاعل خير، بل أنه (رجلٌ تنويري). (لقد أراد برشت أن تحفز أعماله الناس على التفكير، وأراد من المشاهد أن يكون الناقد والمسؤول، كما فعل إبراهام ليسنك في العديد من مسرحياته) .

يضيف كوبمان: (بقدر ما أقدر المقارنة بين برتولت برشت وإبراهام ليسنك)، إلا أنها تبقى مُضلِلة. ويؤكد الأستاذ الدكتور بيرند سوشر، الناقد المسرحي السابق في صحيفة (دويتشه تسايتونك)، وكذلك الناقد أوغست إيفردينك: (إن أسلوب برشت في التنوير مختلف تماماً عن أسلوب ليسنك. وما أراده برشت حقاً هو تغيير الظروف الاجتماعية بشكل لافت للنظر).

أما فيما يتعلق بالطريقة، فيقول كوبمان: (نعم، شكل ليسنك شكلا من أشكال التنوير الخفي، حيثُ يحاول برشت دائماً القيام بذلك بطريقة بائنة وكبيرة، كما هو الطرق بمطرقة خشبية).

وقد لعبت الموسيقى دوراً رئيسياً بالنسبة لبرشت كجزء من فنه، حيث كان يوظفه توظيفاً رائعاً، ليس فقط في بعض الأعمال السياسية حسب، بل حتى في أعماله الدرامية غير السياسية والمبكرة منها تحديداً، والتي نأى بنفسه عنها لاحقاً، مثل (بعل) و(الزفاف)، حيثُ اخترقت الأغاني الحركة الدرامية. والتقى برشت بالملحن كورت ويل. وأنتجا سوية مسرحية (أوبرا القروش الثلاثة.

في قلب مسرحية (أوبرا القروش الثلاثة) تدور معركة (الرجل النبيل) وقاطع طريق لندن السريع (ماكبث)، المعروف باسم ماكي ميسر، ضد (الملك المتسول) الماكر جوناثان بيتشوم وشرطة لندن ونظام العدالة. وهنا تم التحريض على القتال من خلال زواج ماكي ميسر سراً من أبنة بيتشوم وأيضاً من خلال إقامة علاقة مع أبنة رئيس شرطة لندن. وفي اللحظة الأخيرة، كانت هناك نهاية سعيدة لماكي ميسر، المهدد بعقوبة الإعدام حيث تم إضفاء الشرعية على عمليات الاحتيال التي قام بها في النهاية، وتم استبدال ديتريش بشراء الأسهم وتم استبدال اقتحام البنك بتأسيس بنك.

لقد كان مزيج النقد الاجتماعي اللاذع والحكايات البارعة، المدعومة بالموسيقى المتطورة، هو الذي جلب نجاح برشت في عام 1928. بعد ذلك تم تحويل مسرحية أوبرا القروش الثلاثة إلى فيلم في وقت مبكر من عام 1930. بعدها فشلت محاولات برشت لحظر الفيلم: فقد خسر القضية المرفوعة ضد المخرج جي دبليو بابا الفاتيكان. وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تغير الاهتمام بمسرحية (أوبرا القروش الثلاثة) في ألمانيا.

يوضح المخرج بول فيرهوفن من باب المزحة: (بأنه لم يعد لدى القرش أي أسنان في ذلك الوقت). لم يكن الناس في أواخر الأربعينيات قادرين على فعل الكثير مع النكات العدوانية والتجديف التحريضي حول الأخلاق البرجوازية الزائفة. يقول فيرهوفن: (في البدء يأتي الاهتمام بالطعام، ومن ثم يأتي الاهتمام بالروح المعنوية). لم نتمكن من مسايرة الشعار البرشتي بعد انتهاء الحرب. وبالنسبة لنا، لم يكن التركيز مرة أخرى على الصدمة الأخلاقية أبداً. اليوم، عادة ما يكون التأثير الترفيهي لأوبرا القروش الثلاثة في المقدمة، كما هو الحال في الأداء الذي قدمه مسرح ميونيخ فولكسثيتر في عام 1991.

يقول سي بيرند سوشر: (تتحول أوبرا التسول السريعة إلى مسرح ترفيهي موسيقي وممتع حيث يتخلل العمل الكثير من العروض الموسيقية المستوحاة من التراث الشعبي الألماني). ولكن هذا ليس هو الحال مع جميع العروض ولا في كل مكان. ويقول سوشر: (في الغرب وحده، لم تعد هناك فرصة للنقد الاجتماعي لهذه المسرحية). أما في مكان آخر من هذهِ المعمورة، لا يزال هذا المستوى من المسرحية مؤثراً: (قبل عام رأيت أوبرا القروش الثلاثة في موسكو وما زال النقد الاجتماعي للقطعة قائماً. لأنه يمكنك جلب المافيا إلى اللعب والأثرياء الجدد والمتسولين على الساحة. الشوارع موجودة بالفعل هناك ويتم تنظيمها هناك.)

لم يكن لدى برشت رسالة سياسية فحسب، بل كان لديه أيضاً الكثير من وسائل الترفيه. يقول هاينر مولر: (لو لم يذهب برشت إلى المنفى، لكان قد بقي أو أصبح كاتباً ترفيهياً)، كما يوضح كوبمان: (جميع الأعمال التي نربطها بمسرح برشت اليوم تم إنشاؤها خلال مرحلة المنفى. كان المنفى بالنسبة له يعني استمراره في التجربة التي أسسها ونضوج فكرة ملحمية المسرح. وأنه لم يعد لديه خشبة مسرح تقليدية، بل لقد ألقى بنفسه بعيداً جداً في النظرية الملحمية ومنغمساً فيها. لقد كان برشت بالأضافة لكونه مسرحيا كبيراً شاعراً أيضاً، كما كان يتفاعل مع المسرح الأمريكي، وكان يتفاعل مع بيئته. كل ذلك فعله برشت مما مكنه من خلق نظرية مسرحية مثمرة وبنجاح لأفتٌ للنظر). يقول البروفيسور د. هيلموت كوبمان: (ومع ذلك، يمكن لبيرند سوشر الاستغناء أيضا عن الثمار التي حققها برشت في المنفى. وبالنسبة له، وقبل كل شيء، سيبقى عمل برشت الشاعر عملاً رائداً لا يمكن تجاهله، ويبقى برشت بنظريته الملحمية وبما أنتجه التغريب من تأثيرات على العرض المسرح، يبقى ظاهرة تستوجب البحث والدراسة. وهي نظرية أسس لها برشت طيلة حياتهِ العملية على خشبة المسرح. وتبقى مسرحية الأم الشجاعة واولادها جذوة ما قدمه برشت وتجسيداً حياً لمبدأ التغريب على خشبة المسرح، هذهِ المسرحية التي ابتعدت كثيراً من حيث الفكرِ والأداء عن باكورات أعماله مثل مسرحية (البعل) ومسرحية (الإنسان هو الإنسان) وكذلك مسرحية (غابة المدن): لكنني حقاً لا أريد أبداً أن أرى الأم الشجاعة تسحب عربتها عبر أي مرحلة زمنية مرة أخر لقساوتها.

ويؤكد كوبمان أن ما قدمه برشت على وجه التحديد حين كان في المنفى هو ثمرة التجربة الرائدة له وتبقى أعماله في المنفى ذات طابعٍ وأهمية كبرى وهي ثمرة نتاجاته المسرحية.  ويقول (أعتقد أنه يجب علينا أن نكون أكثر استيعاباً لبرشت). لقد كان لمسرحية الأم الشجاعة ودور الأم المركزي فيها لها ذات التأثير الذي لعبهُ (بونتيلا) في مسرحية (السيد بونتبلا وخادمه ماتي). والمسرحيتان تركزان على أننا يجب أن لا نتعامل مع الواقع دفعة واحدة، بل يمكننا أن نجزئ ذلك الواقع، وأن نقوم بعكس تلك الأدوار. هناك قصائد عديدة لبرتولت برشت تسير في هذا السياق وتؤكد على مبدأ قلب الأدوار. لذا، يمكننا أن نقول بأن العالم قد انقلب رأساً على عقب، حين نقوم بقلب الأدوار، أن جميع الأمور لا يجب أن نعدها من المسلمات، بل أنها وحدات صغيرة يمكن استبدالها أو تغيرها. ويقول: (وكما أعتقد بشكل خاص بأن السيد بونتيلا بطل مسرحية (السيد بونتيلا وتابعه ماتي)، يمكننا من رؤية العالم عن طريق رؤية السيد (بونتيلا الحقيقي) والسيد (لونتيلا المخمور)، وفي الدورين يمكننا ان نعد ( بونتيلا) حقيقي وغير حقيقي في الوقت ذاته.

أبدى كاتبان مسرحيان سويسريان اهتماماً خاصاً ببرشت بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة في مفهومه للمسرح الملحمي وهما: ماكس فريش وفريدريش دورنمات. ولكن على الرغم من أنهما استخدما عناصر ملحمية مثل تأثير الاغتراب الشهير، إلا أن موضوعات واسئلة ومشاكل وحلول مسرحياتهم تختلف عن مسرحيات برشت. ركز دورنمات بالتأكيد على الكوميديا، حيث لا يمكن تصوير سوى عالم مثل عالمنا، (عالم غير متشكل في طور الصيرورة، في طور الانقلاب (. ويعرض دورنمات عمله (الفيزيائيون) (الذي تم كتابته عام 1961، وتم عرضه لأول مرة في زيوريخ عام 1962). السؤال الكبير حول مسؤولية العلماء في مستشفى المجانين. ويبدو الجنون المختار ذاتياً لأينشتاين ونيوتن وسالومون هنا على أنه (الشكل الوحيد ذو المعنى للوجود في عالم يتجه نحو زواله). لقد دار ماكس فريش مراراً وتكراراً حول مسألة الهوية وتاريخ الفرد وقابليته للتواصل. هذا الموضوع هو محور مقالته عن السيرة الذاتية، وهي كانت (على عكس برشت)، حيث لمْ يكن دورنمات وفريش محللين اجتماعيين. ولم يكن لديهما أنموذجاً متكاملاً لرؤيتهما للفرد، وهذا يحسب لصالحهما أكثر من ان يكون ضدهما. لكن طريقتهما في ممارسة النقد المباشر موجودة في (في خلفية برتولت برشت)، حسب ما جاء على لسان كوبمان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ الأدب الألماني الحديث/ باحث وأكاديمي ومترجم خبير / جامعة بغداد.

عن: موقع اكاديميا الألماني.

عرض مقالات: