اخر الاخبار

خَواء

نهضَت الشمسُ مِن وراءِ كثافةِ بساتينِ النَّخيلِ المُحتشِدة في الأفق، فداهمت المدينةَ جيوشُ الضَّوءِ بسيوفٍ تبرقُ كالتّبِر، وشَرعت تَهمي طلّاً من الصَّحو أيقظَ النائمينَ وسرقَهُم من أنسامٍ باردةٍ كانت تَتعطَّفُ عليهم بوَسنٍ آسر. لكنَّ الفتاةَ المَحجورةَ في غرفتِها المُعلَّقَةِ بالسَّطحَ كانت يَقِظَةً طوالَ الليل [ اليَقظةُ المُستديمةُ سَرقَت مِن وجهِها نضارته. ومِن عينيها أحلاماً طريّةً، جفَّت واستحالت أشباحاً ورؤىً جامدةً بينما ضَمُرَت شفتاها وتشققتا.] ولم تُفاجأ بعيونِ النَّهارِ تَقتربُ مِنها.. وحينَ شقَّ سيفُ الضوءِ حجابَ الزجاجةِ الخضراء للنافذةِ الصَّغيرةِ، المُرتفعةِ قريباً مِن السَّقف دبَّ في وجهِ الفَتاةِ ألقٌ، وبدَت كأنَّها تَستعيد حَيويَّةً فقدتها مِنذُ سنواتٍ.. أزاحت الزّجاجة الشَّفّافة التي تفصلُها عن العالمِ المَحسوس، وأبعدت عنها اطاراً خَشبياً عتيقاً، مُترجِلةً بفستانٍ توشّيه زهيراتٌ دقيقةٌ بهتَت ألوانُها فبدت كما  لو كانت بِلونٍ واحد.. اقتربت من البابِ الموصَد فأشرعته.. غَسلَ الضوءُ الذهبي قامتَها الناحلةَ مُفشياً شحوباً مريراً كرَّست فيه السنواتُ المُنصرمةُ ذبولَ الأمواتِ المنسيين.. أطلَّت من المَمَرِّ – الذي وقفت فيه- على فَناءِ المَنزلِ فسقاها المَشهدُ الداخلي ماءَ الحياةِ واستدارت مُتَّخِذَةً السلَّم نزولاً إلى هُناك... هناكَ وقفَت أمامَ بابِ غرفةٍ موصدة فتذكَّرت أنَّ هذه الغرفة كانت تعودُ لها، وأنَّها تتذكَّر موجوداتها تفصيلاً.. رفعت يَدَها فأزالت الرِّتاجَ ودلَفت. وجد الضوءُ فرصةً للهجومِ فاندفعَ من ورائِها. ولوهلةٍ غَمرَها الذهولُ اذ اكتشفت أنَّ كلَّ شيءٍ لم يتغيَّر: السريرُ وشرشفُه/ المرآةُ البيضويةُ المؤطَّرةُ بالصاجِ المُزخرَف/ صندوقُ تنضيدِ الأفرشةِ/ بِساطُ الأرضِ؛ وحتى شمعةِ تعليقِ الملابس... وعلى الجدارِ فاجأتها صورتان عرفت الأولى لزوجِها، أمّا الثانية فكانت لامرأةٍ بلا ملامح .. تملَّكَها الحزنُ، واستدعت حِرقةً خزينةً كانت كامنةً فدبَّت فيها الحياةُ بغتَةً... تركَت الموجودات خلفَها، واستدارت تغتسلُ بالضّوء؛ وتحرَّكت بإنهاكٍ لا تقوى على مقاومته.. كانت تسعى لنيلِ هواءٍ هرَبَ منها.. رفعت يدَها تَمسكُ عنقَها متوسِلَةً بنسمةٍ تُديمُ لها الحياة... تحرَّكت ساعيةً للخروجِ من صَمتِ الأشياءِ؛ غيرَ أنَّ خطواتِها ثَقُلَت، فانهارت.. راحت تزحفُ.. اقتربت من البابِ الرئيسي.. رفعت يدَها لتديرَ اكرةَ البابِ فارتطمت بقايا اليدِ أرضاً.

خلفَ البابِ/ في فسحةِ الزقاقِ ثمَّةَ صِبيةٌ يلعبون. سألَ أحدُهم صحبَه، مُستفسِراً:

-هل سمعتمُ شيئاً؟!

توقَّفوا يتطلعون بوجوهِ بعضِهم... أخيراً قالوا:

-كلّا، كلّا.. البيتُ مُقفَلٌ من زمان.

حُطام

بعدَ زمانٍ.. زمانٌ عمرهُ سنواتٌ هاربةٌ صرفتْها في الغربةِ والضَّياع عُدتُ إلى بيتنا.. أولَ شيءٍ فعلتُه هو أنّي صعدتُ إلى الغرفةِ العليا استذكِر روحَ أخي الكبير الذي ماتَ دون أنْ أشهدَ لحظاتِ وفاتِه... كان البابُ مُغلقاً يكسوهُ الغبار.. حدَّقتُ بعينِ الطفولةِ في ثقبِ المفتاحِ فتمثَّلَ أمامي شعرٌ أجعد، تصبغهُ الحِنّاء، وتتكسَّر على ثناياه شلالاتُ النّور المُنسكب من مُصباحٍ أصفر يتدلّى من السقف.. وعلى جانبٍ اقتنصتُ وجَهَ أخي مُحمرّاً، وعيناه سائحتان فوق انثيالِ الشَّعرِ الذي استدارت صاحبتُه لتكشفَ وجَهاً دائرياً ذا جَبهةٍ عريضةٍ وخدّين طافحين بالبِشر، وعينين لمحتهما تتَّقِدان وتستقران في وجهِ أخي كأنَّهما تمتصان نضارته... تذكَّرتُ وقتها أنَّي طرقتُ البابَ وأنا لا أفهمُ عَبثي، ولا  أدري إلّا بعدما كَبُرتُ، وصارت حفنةُ من السنواتِ تَملأ جيوبي أنَّ فِعلتي تلك كانت اغتيالاً لسعادةٍ ينعم بها مع فتاته... رأيتُه يفتحُ البابَ وينظر إليَّ ببرود. ومِن ورائِه لَمحتُ الوجهَ الجميلَ يُطوّقه الشَّعرُ الحنّيُّ وابتسامةً تبوحُ بها شفتاها الورديتان.

اليوم، وبعدما صارت حَفنةُ السنوات أكواماً تَملأ جيوبي كلَّها إلّا جيباً واحداً كنتُ أخطو في شارعٍ شُقَّ على انقاضِ بيوتنا التي أزيلت فأزالت معها اعشاشَنا، وساحات مراحِنا وألعابِنا التي لا تنتهي إلا بعيونٍ تنطبقُ تَعبى لا تقاوم النعاس. كانَ ولدي الصغير إلى جانبي يسير، مُمسكاً بيدي. هزَّني هزَّةً مفاجئة فانتبهتُ إليه. أبصرتُه يتطلَّع إلى ركنٍ قريب:

-أهذه مجنونةٌ، يا أبي؟.. سألني بِحيرة الصّغار.

تقفُ امرأةٌ تَخطَّت سنوات كهولتها، مُنحنيةً تتلفَّعُ بعباءةٍ رثّةٍ، موحلةٍ .اكتسحت وجهَهَا الغضونُ، وسالت شُعيراتٌ بيضاء مُشعثة من تحت فوطةٍ متَّسخة تطوِّقُ وجهَها.. اقتربتُ منها. أَخرجتُ قطعةَ نقودٍ من جَيبي.. امتدَّت يدُها، وتهيأ الكفُّ المفتوح لالتقاطِها. لكنَّها... وعلى نحوٍ غَريبٍ انسحبَت.. تَطلعتُ في وجهِها مُستغرِباً: أتراها مَجنونةٌ حقّاً؟!... تفرَّست فيَّ بعينين قلقتين، اتَّسَعتا وكادتا تلتهمانني.. اختلَجت شفتاها وانقبضتا. وكانت على وشكِ التفوّه بكلماتٍ حبيسةٍ، بَيدَ أنَّها طأطأت رأسَها واسترسلت بنشيج مَسموع؛ أعقبَهُ تقاطرُ دمعٍ يشوبه قذىً على دراهمَ كانت تملأ كفَّها العجفاء.

عرض مقالات: