في ديوانه ( غزل في امرأة تجاوزت الأربعين ) الصادر عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2021، يقدم وليد الصراف قصيدة قصيرة تحت عنوان ( ديك ) ، يعتمد بناؤها الفني على بنية حكائية رمزية ساخرة ، تحاكي ما جاء في التراث العربي والعالمي من حكايات على لسان الحيوانات ، لتمرير مقاصد دلالية رمزية ساخرة ، وقد جاء النص تحت عنوان نكرة ليظل منفتحا على دلالات أوسع من المعنى المعجمي لمفردة الديك . وذلك واحد من المقاصد الشعرية للنَّص :
( ديك )
ديك أتى مرتبكا إلى دجاجة
فنفشت ريش غرورها
وهمست :
مر هل لديك حاجة ؟
لكنه ألقى قصيدة
عن مشرق الشمس وعن شفقها الذبيح
وكيف يستبيحها اللام لولا أنه يصيح
فقاطعت ماقاله بحدة
وطردته شر طردة
قائلة :
يالفؤادي الهائم الملهوف
بعد انتظار دام دهرا
يرزقني الله بديك فيلسوف .
يستهل النص حكايته بمجيء الديك مرتبكا إلى دجاجة ، وبمعنى آخر فإن مجيء رمز السيطرة والفحولة ( الديك ) يُفترض أن يكون مجيئا مهيباً يليق بتلك الدلالة الرمزية المعروفة عن الدِّيك ، وبما أنه جاء مرتبكاً فهذا يعني خروجه عن المألوف ، ومن ثم يستلزم الأمر سبباً عظيما ليبرر به النص ذلك الارتباك الظاهر على مخلوق بتلك القوة والهيمنة والشجاعة المعروفة عن الديك في الثقافتين الشعبية والرسمية العربية . ويبدو أن طبيعة استقبال الطرف الآخر من الحكاية (الدجاجة ) لذلك الديك المرتبك ، كانت تنطلق من تأويل الدجاجة الطبيعي لارتباك الديك المصطنع -من وجهة نظر الدجاجة - لأنه ارتباك قادم من نيته الفحولية مثلا في التواصل الجنسي مع تلك الدجاجة ، ويدخل فعل الارتباك هنا في سياق التحضير لذلك التواصل المنشود ، وحسب ما أفصحت عنه الدجاجة من معطيات ذات بعد له صلة بذلك التواصل وما يسبقه من تعابير عاطفية ( يا لفؤادي الهائم الملهوف ) ، فضلا عن فعل الانتظار الذي سبق مجيء فارس الأحلام والفحل المنتظر ( الديك ) . حتى أنها استعدت لهذا الأمر ( فنفشت ريش غرورها ) كما تفعل الدجاجة عادة في سياق فعل الإغواء للديك . بل انها وفق ذلك التأويل الجنسي والفهم الذي تبنته عند مجيء الديك ، همست إغواء منها له ، وسألته مستفزة إياه عن حاجته حتى تتأكد من المقصد الذي ببالها المرتبط بحاجتهما الجنسية معا .
والمفارقة التي وقعت لاحقا يفصح عنها الاستدراك ب( لكن ) ( لكنه ألقى قصيدة ) ، ومن ثم خرق توقعاتها ، وجرِّ مجيئه إلى غير ما كانت تفكر به الدجاجة من وضع طبيعي بين أي ديك يأتي إلى دجاجة ، بل السخرية تجلت في مضمون ما قرأ من شعر يمجد دور الديك كونه من يزيح الظلام عن المشرق ، فضلا عن صياحه وإيذانه بقدوم الفجر . ولأن مثل هذا الدور طبيعي وينسجم مع وظيفة الديك لكنه لا ينسجم مع مخيلة الدجاجة وتأويلاتها الجنسية السابقة لارتباكه ومجيئه إليها ، فإن ردة فعلها كانت عنيفة جداً تجاهه بسبب الإحباط الذي ولده الديك في نفسها بعد انتظار دام دهرا ، فقررت إسكاته ومقاطعته وطرده ، متهمة إياه بالتفلسف . الذي لا ينطبق مع أفق توقعاتها المنتظرة لديك يلبي حاجتها الجنسية وفؤادها الهائم الملهوف ويرضي غرورها وشعورها بالأنوثة وأنها كائن مرغوب من الآخر ( الفحل ) على وفق سياقات الحياة الطبيعية لمثل هذه الكائنات التي من المفترض أن تكون بعيدة عن التفلسف .
لكن الديك هنا ليس ديكا حقيقيا ، وهنا يكمن الفهم الشعري الملتبس والمغلوط عمدا لدى دجاجة صنعتها كلمات وليد الصراف الذي صنع ديكاً شعريا خاصا بنصه ، وهو رمز لكل سلطة تخذل جمهورها ، وتحاول أن تصنع من الأمور البديهية ( صياح الديك وبزوغ الفجر ) في الحياة بطولات وهمية ، ولو مَوْضعنا هذا النص في بنية أوسع ، أو في البنية التي أُنتج فيها وهي البيئة العربية ، فإنَّ الديك هنا رمز للسلطة السياسية العربية التي توهم الشعوب ببطولاتها الوهمية في ( المشرق ) ، وأنها المدافعة عنها ضد الظلام ، وضد تحديات الأعداء لها بالقتل برمز ( الشفق الذبيح ) وأنها من تصدُّ هذه المخاطر كلها بصياحها كالديك ، أو بتعبير آخر بخطبها الرنانة الحماسية والصوتية فحسب والمغايرة تماما لما ينتظره منها الشعب ( الدجاجة ) من شجاعة حقيقية ، وتوفير الحياة الآمنة الكريمة بعيدا عن عنتريات الديك والساسة والفحولة المزيفة الاستعراضية .
إن البراعة الفنية في النص تتمظهر بهذه البلاغة في تشخيص الديك والدجاجة ، ومنحهما طاقة على الترميز ، وقدرة على التعبير الساخر ، في بنية حكائية قصيرة جدا ، تبدأ بحدث المجيء ، فإلقاء القصيدة ، ثم طرد الديك . وكان للحوار دور في بيان الاختلاف بين الموقفين المتناقضين ، بين الديك والدجاجة ، منح الحكاية بعدا دراميا لبيان الصراع بينهما حول طبيعة الدور المنشود الممكن من الديك / السلطة ، والدور المتحقق ، بأفعال أدنى من المطلوب.