اخر الاخبار

“أنّ الشعر ممَّا تتقبّله النفس أكثر ممّا تتقبل النثر؛ لأنّه أدلُّ على الطبيعة، ومن حيّز التركيب، أما النثر فأدلُّ على العقل، لأنّه من حيّز البساطة. ولا يخلو الشعر من النثر ولا يخلو النثر من الشعر.” (أبو حيان التوحيدي)

لا أعرف ان كنت قد اطلعت على رواية تضم في متنها شعرا، مهما كان نوعه،  عدا السرديات التراثية، كالسيرة الشعبية التي تحفل به، وكذلك حكايات ألف ليلة وليلة، وفي وقتنا الحاضر قرأت رواية “ترياق الذاكرة” للروائية نور علي الرماحي، وقد حمل متنها السردي بعضا من الشعر، قصائد نثرية.

ومن المعروف ان الشعر جنس أدبي سابق لكل الأجناس الأدبية الأخرى، وقد استقرت قواعده التعبيرية، والبلاغية، والايقاعية، فيما الرواية، كجنس أدبي سردي آخر، تبلور ونضج في القرنين التاسع عشر والعشرين. وكذلك فان الشعر جنس أدبي يتصف بالتكثيف، والايحاء، والاقتصاد، والاستعارة اللغوية، فيما الرواية تتصف بالاسهاب، الى حد ما، في كل عناصرها. وأيضا فان الشعر يهتم بالمشاعر والأحاسيس، فيما الرواية تهتم بتصوير العالم الذي نعيشه. الشعر بأغلبه ذاتي، وغالب الرواية موضوعي. إذن الشعر شعر، والرواية رواية. أما عندما ينفتح فن سردي كالرواية على أجناس أدبية أخرى كالشعر، مهما كان نوعه، يكون الشعر فيها عبارة عن أبيات من قصيدة سابقة عن كتابة الرواية، أن كان هذا الشعر من تأليف الكاتب أو من غيره، فتكون عملية التداخل هذه عبارة عن تناص إبداعي قد تم حسب معادلة حضور نص سابق “القصيدة” في نص لاحق “الرواية”. أما اذا كان الشعر هذا من أساس الكتابة السردية “الرواية” أي أن الروائي هو كاتب هذه الأبيات، كما في نصنا الروائي، لما يتطلبه الموقف الروائي من الشعر، فيعدّ  الحضور الشعري هنا عبارة عن تداخل بين الأجناس الأدبية.

صحيح ان الرواية فن سردي بإمتياز، وله لغته، التي تتكون من أساليب سردية ووصفية، وهي تقدم الواقع في الحياة، وفي المجتمع، وكذلك في دواخل النفس البشرية. لهذا فاننا نراها توظّف باقي الأجناس الأدبية، في بناء عالمها السردي الخاص. وتوظيفها للشعر في بنيتها السردية جاء لتكتسب بعض صفات لغته الجمالية، والعاطفية، والوجدانية الحاملة للأحاسيس والمشاعر.

ويتجه استخدام الشعر، قديمه وحديثه، في السرد باتجاهات مختلفة، فهو يأتي على لسان الشخصيات في حوار داخلي أو خارجي، أو يأتي عند الوصف السردي، بشرط ان لا يمس البناء السردي للرواية، أو القصة القصيرة، وأيضا أن تكون المقطع الشعري منسجم وأفكار المقطع السردي الذي يضمه، وان لا تنزل كفة الشعر عن كفة السرد، بل هي أخف منها بكثير.

العاطفة المطلوية في الشعر ليست هي العاطفة السردية، والصور في الشعر ليست هي صور السرد، والمخيال الذاتي الذي يشتغل أثناء كتابة الشعر ليس هو مخيال النص السردي، هذا ما يمكن أن يكون في كلا الجنسين.

أمامنا الآن رواية “ترياق الذاكرة” التي تضم بعض المقاطع الشعرية، فلنفحصها نسبة لما قلناه سابقا، وهذا ليس معناه ان ما سوف نقوله هو رأي يراد اعمامه على قراء الرواية والنقاد انما هو واحد من آراء كثيرة ستقال عن الرواية، والآخرين غير ملزمين به.

***

الشعر في رواية “ترياق الذاكرة” مفهوم من قبل القاريء، ان كان هذا الترياق قد أتى من “عشبة” يبحث عنه بطل الرواية في شمال الوطن، أو من شيء آخر، أقول ان الشعر في هذا الرواية يأخذ عدة مسارات في الاستخدام، والمسار الأساس هو  ان لغته لا تختلف عن لغة الرواية، تلك اللغة التي تحمل بين ألفاظها بوح البطل والبطلة الداخلي والخارجي.

المسار الأساس:

لو تفحصنا السرد على صفحة 16، والمقطع الشعري فيها، سنجد أن فرقا بين الاثنين من ناحية اللغة، لغة المقطع السردي لغة سردية، شبه جافة، فيما لغة المقطع الشعري لغة ايحائية، مكثفة، طرية، انها لغة شعر، ويمكن القول على جميع المقاطع الشعرية في الرواية.

يقول المقطع السردي على صفحة 16: ((أَرجوكَ أنثَّنِ عن قَرارِكَ ولا تَرْحَلُ فلا طاقةَ لي على ٱستنشاقِ هواءً لا يَمُرُّ بِكَ قبل أن يَصلَني، ألا تَعْلَمُ إنني لا أُطيقُ نِصْفَ يومي من دُونِك، فكيف حالي بعد أن تَرْحَلَ، لا أُريدُ شيئاً سوى وجودكَ معي، عندها أشعرُ إنني ٱمْتَلَكْتُ كُلَّ شيء، لأَنَكَ فِعْلاً كُلُّ شيء، بالأمس عندما قُلتَ لي انّكَ تُفكر في ٱلرحيلِ، أخْتَنَقْتُ وَاظلَمَ كُلُّ شيء، باتَتْ عيناي لا تُبصران، هذا ما كنتُ أَتَوَقَّعُهُ، فليس لي من ٱلدنيا إلّا الوجع، كنتُ أَتوجَّعُ لأنَّكَ تُفَكِّرُ بالرحيل فكيف إن رَحَلتَ؟ رُحماك ربيّ.)). ويتبع هذا المقطع شعرا فيقول:

((رويدكَ لا تَرْحَل

فمازِلتُ في حُبِّكَ بُرْعُما

لا تَكسِرُ صغيراً بك تَعَلَّقَا

أحتاجُكَ جدّاً ... يااااانا)).

وهذه الملاحظة يمكن أن نعممها على مساحة الرواية. فاللغة في المقطع الشعري، لغة ايحائية، اقتصادية، مكثفة، فيما لغة النثر في المقطع السردي لغة تأخذ من لغة السرد مواصفاتها كلها/ خاصة جفافها.

المسار الأول:

يستخدم الشعر في هذه الرواية كعتبة أولى، في مدخل الرواية، وأخرى نهائية، على الغلاف الثاني، ويتم فيه اعتراف البطل بأنه ضد النسيان، هذه الآفة التي سيطرت على الرواية، لكن الرواية تنضح في البحث عنه، وهذا شيء جميل في مفارقة الشعر لما يقوله السرد. إذن هي عتبة يجب أن يجتازها القاريء ليدخل في عالم الرواية متسلحا بمعرفة ما كان يفكر فيه البطل.

((أعترفُ إنني ضِدَّ ٱلنسيان

ولا أنوي ٱلأقترابَ منه يوماً

وان أَعْيَتنْي ٱلذاكرة

فما أحمل من آلألمِ يحتاجُ إلى ذكريات جميلة

وما ذاكرتي إلّا صدمة كهربائية

تُعيدُ ٱلحياة إلى قلبي كلّما ٱستسلمَ للموت

فكيف يمكنني ٱلعيشُ من دونِ

ذِكراكَ..

من دوني

لأَنْكَ أنا)) ص5

في نهاية الرواية، وعلى الغلاف الثاني، كان هذا المقطع الشعري، وفيه تعترف الشخصية بان النسيان، الذي كان يطلبه، لم يحدث في مسارات السرد الروائي، بل حدث العكس.

((عُذراً إن كانت كلماتي

قد أدمَعَتُ عيناً قرأتها

أو آلمَتْ قلباً أحسَّ بها

فما هي إلّا قصصٌ حقيقيّة

حَدَثَ أغلَبُها وشَهدِتُ حدوثَها

ذَكَرتُها عسى أن لا يُعيدُها ٱلزمن

على قلوبٍ تألمتْ

حين عَشَقَتْ

فَكُلّ ما كَتَبتُ كان حقيقةً أَضَفتُ إليها ٱلأوهام

لِتختفي ملامحُ أبطالها

هي حقيقة مَزَجتُها بالوهم

لأثبِتُ

أَنّ للحُبِّ بَقِيّةٌ

وأنُّه ما زالَ

على قَيدِ ٱلحياة

فما هي إلّا ذِكرى

إنْ نَفَعَتْ ٱلذِكرى)).

المسار الثاني:

في هذا المسار راح الشعر كبنية تابعة لبنية السرد، ومكمل له. فالكاتبة على لسان أحد شخوصها، إذ تتداخل أصواتهما، تخاطب الآخر بألفاظ النثر، والفاظ الشعر، إلّا ان الفرق بينهما واضح كوضوح شمس الضحى في سماء صافية، وهذا المسار قد انتشر على طول الرواية، على الصفحات11،16،28،123،125،126،140.

قال الشخص الذكر:

((مالي ومالُ نسيانها طارقاً لبابي

فَرَّطْتُ بِكِ وبذاتي قبلكِ

ألا ليتني عرفت أليوم

من أنتِ

و أين أنتِ

و ...)). ص 11

وتقول الأنثى:

((رويدكَ لا تَرْحَل

فمازِلتُ في حُبِّكَ بُرْعُما

لا تَكسِرُ صغيراً بك تَعَلَّقَا

أحتاجُكَ جدّاً ... يااااانا)). ص16

ان رواية “ترياق الذاكرة” وهي تستخدم الشعر في انهاض عناصرها التشويقية، والتخيلية، والتكثيفية، كانت عبارة عن سرد طويل، ولا يقع في فصول، بل ظل على “نَفَس” واحد من البداية الى النهاية، وهذا السرد المطرد مما تمتاز به هذه الرواية.

ــــــــــــــــــــــــــــ

*روائي وناقد عراقي/ يُعنى في شؤون الادب الشعبي.

عرض مقالات: