اخر الاخبار

السخرية أو التهكم في الشعر الحديث هي وسيلة لتوصيل المعنى الجاد والمؤثر في المتلقي توفر له القناعة بالنص الشعري وفي كثير منه يكون أكثر تأثيرا من الشعر الاعتيادي وربما كان أحد الأسباب التي مكنته من اجتياح الساحة الثقافية وخاصة السياسي منه وينطبق هذا القول على الشعر الشعبي العراقي الذي نهج ذات الأسلوب وارتبط هذا اللون بالشعر المباشر بعيدا عن الغموض...

توقفت عند تجربة شاعرين معروفين هما أحمد مطر وموفق محمد في عناوين محددة، تناولت سماتهما.

1 - توظيف المقدس:

ونبدأ بالشاعر أحمد مطر وقصيدته (قلة أدب) وهو شاعر ساخر فذ غني عن التعريف:

“ قرأت في القرآن

تبت يدا أبي لهب

فأعلنت وسائل الإذعان

أن السكوت من ذهب

أحببت فقري... لم أزل أتلو

وتب

ما أغنى عنه ماله وما كسب

فصودرت حنجرتي

بجرم قلة الأدب

وصودر القرآن

لأنه حرضني على الشغب.”

هذه القصيدة تعفي الناس من بيانات كثيرة وربما تكون هي الأقوى على تحريض الناس ضد المتذرعين بالدين وجعلوا أنفسهم حماة له، من دون الإساءة للنص القرآني بل جرى تجريم المدعين بمصادرتهم للقرآن، بعد أن فشلت وسائل إعلامهم من اسكاته بالتهديد وبمصادرة حنجرته المحرضة على الشغب والتي تقابلها الثورة أو الانتفاضة ضد الظالمين. بعد رفضه الرشوة المعلنة بـعبارة “ السكوت من ذهب” بمعنى أسكت تكسب المال فجاءت إجابته رفضا بجملة: “أحببت فقري”  وأكدها بكلمة: “ وتب.  

 ومسألة توظيف الآيات القرآنية في الشعر لم تقتصر: على الشاعر أحمد مطر بل نجدها في شعر موفق محمد إذ يقول في قصيدته (فتاوى للإجار)

 “ في الدنيا قبل الآخرة

قال القرضاوي

فمن يقتل عراقياً خيراً يرَ

ومن لا يقتل عراقياً شراً يرَ

ونصبرُ

إنَّ الرقاب رقابنا

أوصيكم بالجار السابع ورفقا

بالديكة وما يجري

 عليها في ليلة القدر”.

وهنا السخرية واضحة من المتطرف الإسلامي المصري الذي يفتي بما شاء له ويواصل التهكم منه:

“ذبحُ رقبة

أو اطعام في يوم ذي مسغبة

سكيناً ذا مقربة

أو سيفا ذا متربة

وأضرب العود و غنِّ

إذا أنت لم تذبح ولم تدرِ ما الدما

تبرأ منك الله إن كنت مسلما”

هنا قد يعتقد بعض السامعين أو القراء أن الشاعر قد خرج عن نطاق النقد اللاذع لمن يوظف النصوص الدينية في تعرية التطرف لكنه واضح في موقفه ومؤمن به إيمانا قاطعا وله عقل وعين يفرقان بين النصوص الأصلية وبين توظيفها للقتل بلا رحمة وتجاوزا على ما هو سائد في المقدس برمته، ولكن هناك من لا يفهم هذا التوجه لا بالوعظ ولا بالدرس بل بالإثارة الساخرة التي تستفز المتلقي وتجعله يفكر إن كان يريد أن يفهم حقيقة ما يجري. لذلك تناول موفق محمد النصوص وبتغييرات مثيرة، مولدة قناعات جديدة لدى القارئ أو السامع الواعيين، مسخرا التراث الإسلامي في بعض قصائده متهكما بأدعياء الإسلام المتطرفين:

“من رأى منكم عراقياً فليذبحه بيده

فإن لم يستطع

فبمدفع هاون وإن لم يستطع

 فبسيارة مفخخة

 وذلك أضعف الإيمان

رواه القرضاوي

وهو يكرع دماء العراقيين.”

وقد استخدم لفظة قديمة عامية وسائدة حتى الآن وهي” يكرع” أي يحتسي حتى الثمالة.

2 - الصورة الساخرة:

يحاول موفق محمد أن يجعل من صورة أشبه بكاريكاتير ساخر يضحك ويؤثر في المتلقي:

“فلم تعد الأرض أنثى

بل هي الذكر الوحيد الذي يلقح السماء

بناطحات السحاب

لتلد لنا المقابر” 

نراها سخرية مريرة عبرت عن مفارقة التطور الذي يجري على الأرض بدون دوافع انسانية حضارية، حيث تكون نتيجة هذا التطور هي الموت بدلا من الحياة، إذن هو موقف ضد مسار التطور الخالي من الغايات النبيلة التي لا تترك إلا “ وقع خطى الغائبين

ببيوت تردم أبوابها

وغرفٍ تقايض شبابيكها بالثقوب

 رؤوسٍ تسمل عيونها

 قرابين للظلام الذي يحنطنا

 في اهراماته التي لا تحصى”

الظلام هنا هم الطغاة والقصيدة كتبت في زمن الدكتاتورية البائدة. ورمز هذه القصيدة يتعدى محليته ليشمل كل النصابين والقتلة في الأرض التي تلقح ناطحاتها. ويبدو أن الشاعر يرى هؤلاء الطغاة توابيت على الرغم من جبروتهم. ويرسم صورة أخرى ساخرة تعبر عن فظاعة القتل والدمار الذي لحق الجسد والروح حيث الرؤوس لا تعرف أجسادها وأطرافها بلا أصابع وعظام منخورة:

“ولكي نخفف من سمنة المقابر

 صار لازما أيضا

أن نحرق موتانا

لنعيدَ إليها رشاقتها

بأطباق الرماد”

ولو قرأنا شعر أحمد مطر لوجدناه يعج بالصور الكاريكاتيرية وبصوره الساخرة والتي تستخدم الحيوانات رموزا موحية لها، ويمكن للمتلقي أن يفهمها ويطبقها على واقعه فيجدها مطابقة جدا ونذكر هنا مثلا واحدا يجسد هذا المعنى بعنوان (إهانة):

“رأت الدول الكبرى تبديل الأدوارْ

فأقرت إعفاء الوالي

واقترحت تعيين حمارْ!

ولدى توقيع القرارْ

نهقت كل حمير الدنيا باستنكارْ:

نحن حميرَ الدنيا

لا  نرفض أن نُتْعَبْ

أو أن نُرْكَبْ

أو أن نُضْرَبْ

أو حتى أنْ نُصْلَبْ

لكن نَرفضُ في إصرارْ

أن نغدو خدماً للاستعمارْ

إن حُموريتنا تأبى

أن يلحقنا هذا العارْ!” 

3 - المفردة الساخرة:

وعلى المستوى الثاني يلجأ موفق محمد إلى المفردة الساخرة موظفا إياها لتبشيع

ما يجري في الواقع واظهار الزيف في استخدام المفردات التهكمية إلى جانب المفردات السامية والنبيلة:

“هبيط الشهداء

ثريد العقيلة المنقوع بسرطان الثدي”

فهبيط كلمة عامية وظفها الشاعر ليسخر من الشهداء الذين لا تنطبق عليهم الصفة المشرفة. لا نصاً ولا مجازاً، و(ثريد) كلمة عربية فصيحة لكنها متداولة بين العامة، وربط هذه اللفظة بـ(العقيلة) وبمرض عضال (سرطان الثدي) ليس اعتباطا انما هو ربط موضوعي يتعلق بطبيعة التفكير وتفعيل العقل الذي لا يفعل لأنه مصاب بمرض عضال وغيبيات تبتعد عن الواقع الديني والعلمي مما يخلق عيوباً جدية ببناء جيل جديد، أو طبقة سياسية وكانت وراء تخلف المجتمع والتطور العلمي في البلد.

4 - الشعر الشعبي:

برع موفق محمد بتضمين قصائده بالشعر الشعبي وغالبيتها من تأليفه فهو شاعر شعبي ويحفظ منه الكثير ويجيد كتابته لكنه غير متخصص به ووردت كلمة نابية أيضا وهي (شعرتي):

“ قلت للموتى خذوني

لم أعد أحتمل الرأس الذي

يكبر في رأسي ويبكي الشجرة

لم أعد أعرف ألوان العتابة

(يروحي ابحر شوكج ملحيتي

جم ماصخ ابماصخ ملحيتي

بعد مندل شعرتي مليحتي

إشما يزهن وطابكهن سويه)

لم أعدْ أحتمل العيشَ

 بتهجين الكتابة”

5 - الأغنية:

ويلجأ الشاعر موفق محمد إلى الاستعانة بالأغنية الشعبية عربية كانت أو عراقية لاستكمال صورته الشعرية لأن الأغنية تعد جزءاً مهماً من ثقافة الفرد في المجتمع وتدخل في تركيبته النفسية فتكون أحيانا خير تعبير عن حالته الشعورية، وتجسد قمة إحساسه بالحزن أو الفرح ارتباطه بالحالة التي يعيشها: 

“ويقبل دكة هذا ألحان

كان فريد الأطرش يقصده حين يغني

(يبو ضحكة جنان   مليانه حنان   اضحكه كمان وكمان )”.

ومن هذه الصورة إلى أخرى حزينة ضمن حوار داخلي نازف من أعماق قلب الشاعر وكأنه يهذي وهو واقع تحت تأثير الواقع المرير الذي لا مجال للراحة والاستقرار سوى التدحرج نحو الخمرة ملاذاً وقتياً:

“ تعوي ذئاب الفلى

في رأسي هذا الصبْ

ما ذاق ذرعا ولا سبَ الزمان الكلبْ

وأصعد أسرع

لا تكشف أبداً

ساعينك بالربع الثالث بعد قليل

لا تختصما

(وأرجوك

لو يسألك في القير عن حالي

احجيلو على اللي جرى

واللي حيجرالي)”.

ووجدت أن الشاعر أحمد مطر استعاض عن كلمات الأغاني بالترنيمة وهو الصوت الموسيقي الذي يضيف للقصيدة حيوية أكثر:

“صوتُ مُجنْزرِ

تمْ ترمْ الله أكبَرْ

تمْ ترمْ الله أكبَرْ

انقلابْ

تمَ ترمْ تمْ

وانْتهى عهْدُ الكلابْ”

6 - الكلمات النابية:

وموفق محمد لا يتردد في استخدام الكلمات النابية لتوصيل غضبه ومعاناته حيث يحس أن اللغة الجميلة عاجزة عن توصيف تلك النماذج الشريرة التي سامت الناس خسفاً وتقتيلاً حينها يكون “ القبر أهون ألف مرة وهو طريق للمسرة” يصرخ الشاعر لا على لسانه بل على لسان عزرائيل:

“ ما هذي الرحى؟

من ذا الذي أصبركم أمثلكم

 أقصكم

صمم من أجسادكم  قبوركم

أطلق عزرائيل فيما يشبه الزلزال

صرخته المحتدمة

من يا ترى كدس أكوام الخرة

في هذه الضمائر المؤقلمة

حولها زرائباً مهدمة

مقابراً مرقمة

والموت ليس مهنتي فيما أرى

من جثث مسلوبة مهشمة”

وحين يصبح الارتزاق ظاهرة جزارين والناس قطيع كلاب يتخاصمون على سقط المتاع التافه يرسم لنا شاعرنا موفق صورة غاية في التهكم:

“ في عنقي

 حكمت الحبل

وألقيت الطرف السائب للكلب

يا كلبُ يا ابن الكلب

أبعدني عن أسواق القصابين

ولا تنبح قبلي

يبكي الكلبُ

يرمي طرفَ الحبلِ

ويركض مجنونا مثلي.”

 وقلَّت الكلمات النابية عند الشاعر أحمد مطر لكنه أيضا وظف صورة أسنان الكلاب في قصيدته (سواسية) الذي يجعل من الكلب رمزاً للمهانة التي يعيشها المواطن العراقي في بلده المستباح من قبل طارئين على الوطن والوطنية:

“ نَحنُ كأسنانِ كِلابِ الباديهْ

يصْفَعُنا النِباحُ في الذهابِ والإيابْ

يصْفعُنا التُرابْ

رؤوسُنا في كل حربٍ باديةْ

والزَّهوُ للأذْنابْ

وبعضُنا يَسْحقُ رأسَ بعْضِنا

كي تَسْمَنَ الكِلابْ”.

وفي قصيدة أخرى يتعفف أحمد مطر من ذكر كلمة نابية ومع ذلك استخدم منها الكثير بالفصحى للتقريع مثل (الخنزير، البغل، والحمار...) ومنها كلمة(القحبة) فلم يذكر حرفها الأخير في القصيدة:

“كلُّ ما يُحكى عنِ القَمْعِ هُراءْ

(أنت يا خِنزيرُ، قِفْ بالدُّورِ، إخرَسْ.

يا ابنةَ القَحَّ.. عُودى للوراءْ)” 

هذه بعض سمات شعر التهكم الساخر في الشعر العراقي (موفق محمد وأحمد مطر) أنموذجا، حاولت التوقف عند أبرز سماته فيما كتب الشاعران على  أمل استكمال الدراسة لتتسع على شعراء آخرين لهم خصائصهم الفنية في هذا المجال ولهم تجاربهم الشعرية المميزة، ويشكلون ظاهرة فنية وفكرية في الثقافة العراقية تستحق الدراسة بعمق وعلى وفق منهج علمي ومعرفي.

عرض مقالات: