اخر الاخبار

يجترح د. زهير صاحب اتجاها مختلفا في قراءة الأثر الفني والجمالي في بحثه عن المرتكزات الابداعية المتجاوزة لأثر الآخر في الحضارة الرافدينية بمقارباته الحداثية مع ذلك الأثر الذي يكشف عبره اسبقية المنجزالعراقي القديم أو الرافديني في تبني المدارس الفنية والالتماعات الجمالية قبل غيره .

وبهذا يسجل دفاعه عن ابداعية الأثر وأسبقيته في ما مجمل ما انتجته مخيلة هذا الفنان والاركيولوجي في حفرياته التي تتعامل مع الأثر بوصفها واقعة حسية حقيقية لها مساندها الفكرية وتماساتها مع البناء الاجتماعي ويقينياتها وقناعاتها العابرة لليومي والمعيش باتجاه الخالد والسرمدي الأبدي ، لتضحو قانونا للحياة وليس للممارسة اليومية . ولعل ما ترجم من تلك الملاحم والأفكاروالرؤى يعضد هذه المقولات . ولأن العراق يعد دائما منطقة صراع حضاري لأسباب متعددة ، يشكل اطماعا لأقوام أخرى لها مغانمها على أرضه أصبح منطقة رخوة لما فيها من متغيرات سياسية تؤدي الى متغيرات اجتماعية وثقافية افقدت ثقة المواطن بتاريخه مقارنة بثقة الآخر ، مما أحدث انزياحا على صعيد الانتماء الشعبي والنخبوي لهذه الحضارة وتاريخها المشرق وتحتاج الى جهد أكبر للدفاع عن صدارتها وتقديمها للعالم على انها رائدة .

وفي اصداره الجديد (امبراطورية الابداع) يحاول المؤلف ان يقدم حججه العلمية وبراهينه المقرونة بالوثيقة التأريخية عبر مدونات نصوصية ويلاحق المنجز الفني الرافديني بما يقع ضمن مواقع الامبراطوريات الكبرى ومراكزها المنتجة بدءا من السياق التاريخي الذي يحكم حركية الآثر وصعوده الجمالي المؤثر باللاحق وسطوة الرمز السياسي وفاعليته في المنجز الفني منذ تلك الفترة حتى الوقت الحاضر ، اذ يبدأ من سطوة الملوك الأكديون في العصر الأكدي مرورا بعصر الانبعاث السومري – الأكدي وتتويج هذا العصر بالنشاط الاقتصادي وفعاليات الاعمار والبناء وتقييم تلك المقاربة على صعيد التفكير السياسي الذي ينحو الى قضية الاعمار بما يقترن بفكرة الفن وخطابه الجمالي ، ليذهب الى العصر البابلي القديم وعرض مفهومات سلطة السياسة المتمظهرة في القانون الذي صاغته مخيلة العراقي القديم في بابل ومستويات الاداء الفني بما يخدم المنحوتات الحجرية التي احتوت تلك القوانين وظهور (القصر والمعبد) كثنائية معمارية لها روابطها العميقة في تشييد القانون وتطبيقه في الحياة اليومية وتنظيمها اقترانا بالبنية التحتية (الاقتصاد) المحركة للبنيات الفوقية مرورا بفواعل الثقافة ومميزاتها المرحلية المتمثلة في اختراع الكتابة وتشييد المكتبة .

     متخذا من صورة (كلكامش) ملك اوروك الباحث عن الخلود منهجا تواصليا لتأطير النتاج الفني بمختلف انساقه الجمالية ، الملك الذي سطر رؤية العراقيين انذاك لقوانين الحياة والموت في ملحمة أضحت دستورا يمكن العودة اليه في البحث المقارن مع حضارات أخرى ، بوصف ما تحقق هو جزءا من اجتهاد الذات العراقية على صعيد الفن الفخاري وتطوره وقوس النصر البابلي وبوابة عشتار ومماثلاتها اللاحقة في برلين وباريس وقبلها العواصم الفرعونية والاغريقية في اشارة الى هيمنة السياسي والثقافي على الحياة العراقية بما له الدور الكبير في انجاز كل ما توصلنا اليه من حفريات الأثر ، وبهذا يسوق (صاحب) عنواناته عبر تطور الفن في سياقه الزمني التصاقا بصورة (كلكامش) بوصفه مثالا للذات العراقية العارفة وليس توصيفا فرديا عن المسمى نفسه . فالصورة الممثلة في نحت التماثيل والأفاريز البارزة هي خلاصة فن النحت على مستوى التقانة ، ولكنه مختلف الأساليب طبقا للتباين الحاصل في ظهور السلالات والممالك على الأرض العراقية بذلك الانموذج الابداعي التأملي ومحمولاته الدلالية القائمة على الترميز والتجريد .

ويسعى بشكل قصدي الى تمظهرات الأنساق النحتية التي كانت تروي الوقائع التأريخية في ضوء المزاوجة بين الكتابة ومعادلها الصوري ، بوصف هذه الأفاريز مدونات تأريخية تروي لنا ما حدث عل هذه الأرض مشيرا الى القلق الوجودي الذي يسكن أرواح ملوك سومر وبابل وتدوين نشاطاتهم الكبرى كخطابات فكرية لمشروع انساني كبير ومتجدد انبنى على مجموعة قوانين نظمت الحياة العراقية . ويعتقد أيضا أن بعض ذاكرة (كلكامش) اختصت ايضا بما تم حفره على الأختام الاسطوانية وخاماتها الحجرية الثمينة ، لتتعالق قيمة الخامة مع قيمة المادة المحفورة من مشاهد مصورة ترتبط بشكل جدلي بنظم الحياة والمهيمنات الفكرية الضاغطة على ذات الفنان قبل غيره . ويعتقد (المؤلف) في هذا الكتاب الذي انجز قبله (35) كتابا بذات التوجه ، أن الاشكالات المتحركة في الفكر الحضاري الامبراطوري فرضت سلطتها على الرسامين وكان التعبير عن هذه الموضوعات تؤكد فاعلية الذات الخلاقة في تشييد منجزها الفني عبر تخلق النص المتجاوز ، الأمر الذي يراه منهلا اصيلا لحركة التشكيل العراقي المعاصر بشقيه (الرسم والنحت) وأثر القديم على الجديد على الرغم من الصياغات الحداثية التي تبناها الفنان العراقي المعاصر والخروج بنمط آخر للابداع سبق الآخرون فيه أيضا ، انطلاقا من انبعاث بذور الابداع وتخصيبها بفعل المواصلة والحفر المستمر لكي تحقق معادلة الوجود الفني المعاصر والوصول الى مثابات جديدة حاولت هضم جميع الأنماط الجمالية السابقة من اجل طروحة جديدة على صعيد الخطاب البصري .

لقد استثمر د. زهير صاحب في هذا المؤلف التوصلات الفنية القديمة كافة وتحليلها على أساس المنحى المعرفي العراقي القديم وصدق تلك التوصلات عالية الشأن مع مقارباتها الحداثية ليعلن دفاعه مع آخرين عن موروث الأسلاف وتقديمه بهذه الطريقة الفنية ويعلن أن حكمة العراقيين آلاف السنين (على الرغم المخفي والمندرس منها) جاءت بهذا الكم الهائل من الأصول الفنية والجمالية متعددة الحقول والأتجاهات والأساليب  ، بيد أنها  تصب في المرجع الفكري ذاته عبر مشروع ابتكاري وتأملي لتستوطن الواقع المعيش والحياة الاجتماعية العراقية وتشكل ملاذات الذاكرة الجمعية العراقية قديما وحديثا .

عرض مقالات: