اخر الاخبار

عاش الأستاذ كاظم سعد الدين حياته محباً للترجمة مخلصاً لها مع أنها لم تكن إبداعه الوحيد؛ إنما كانت بالنسبة إليه فعلاً إبداعياً قبل أن تكون عملاً احترافياً، وهي هواية قبل أن تكون امتهاناً معرفياً بمؤديين: مؤدى النقل عن الآخر ومؤدى اكتشاف الذات في قدراتها اللغوية عامة والأدبية خاصة.

ويخطئ كثيرون حين يتصورون أن الترجمة هي الانجاز الوحيد الذي عُرف به كاظم سعد الدين فيغيب عنهم أنه مارس الكتابة القصصية مبكرا، ونشر أولى قصصه في مجلات عربية، ومنها مجلة “الآداب” البيروتية التي فيها نشر عام 1963 قصته( وراء النهر).

ولحبه للشعر والقص سعى إلى قراءة آداب الأمم الأخرى بالانجليزية، وترجم ما رآه جديرا منها بالترجمة، وبعضه لم تكن آنذاك قد عُرفت أهميته بعد مثل قصص كافكا الذي ترجم له(في مستوطنة العقاب) كما ترجم قصصا هندية منها مجموعة( منتصف الليل) للكاتب ( سري سري) ونشرها في مجلة “الأقلام” عام 1982 .

وترجم من الشعر الايرلندي القديم أشعارا لمجهولين تعود للقرن السابع الميلادي وقصائد معاصرة ومنها قصيدة لباتريك كافانا (الجوع الأعظم) وبنظرة ممعنة في ترجمة سعد الدين للأشعار سيظهر أنه صاحب إحساس مرهف وأصيل يمنح الترجمة روحا شفيفة وحيوية:

وعندما تطل الشمس أحيانا من فجوة

يتجلى الرب الأب للناس في شجرة

ويكون الروح القدس النسغ الصاعد

ويكون المسيح الورق الأخضر الذي

يخرج عند عيد الفصح من القبر المحكم حفظه

ولأن الأدب هو حبه الأهم لذا تجلى لديه الفعل الترجمي خاصاً مميزاً، يُعطي للمادة المترجمة نسغاً من الفيوض ونفحة من الجمال، فتبدو كأنها مقروءة بلغتها الأصل. وهو أمر يتحسر عليه أغلب مترجمينا اليوم الذين تفتقد ترجماتهم لذاك النسغ وهذه الفيوض.

وسعد الدين لم يمتهن الترجمة عملاً قبل أن يكون قد أرسى في إثنائها ما يؤكد ملكته النقدية متسلحاً بأدوات النقد الأدبية من الناحيتين: النظرية وهو يقدم لترجماته النقدية بمقدمات ضافية عن المادة الترجمية مثل ترجمة الدراسة التي كتبها الناقد الايرلندي برندان كينلي وقدّم سعد الدين تعريفا وافيا بهذا الناقد وبمؤلفاته وطبيعة أسلوبه ومميزاته وكذلك حين يترجم قصصا وأشعارا ويقدم لها بمقدمة تنم عن معرفة نقدية بآداب الأمم الأخرى. من ذلك مثلا ترجمته لدراسة عن “ملكة الميسر” لبوشكين. أما الناحية التطبيقية فتتضح وهو يكتب أبحاثا نقدية على درجة من الدقة والموضوعية وبدراية كبيرة بالمنجز القصصي العراقي والعربي والعالمي كدراسته( الخيول في القصة العراقية) المنشورة في مجلة “الأقلام” العدد الرابع 1979 . ومن أهم كتبه النقدية الريادية كتاب( الحكاية الشعبية العراقية دراسة ونصوص)

وبعض دراساته يدخل في باب نقد النقد ولعل أهمها وأخطرها دراسته الموسومة( أية حقيقة تلك التي يبحث عنها كافكا) المنشورة في مجلة “الأقلام” 1983 التي كانت محفزا للكاتبة الأستاذة بديعة أمين أن تؤلف( هل ينبغي إحراق كافكا؟) وكذلك ما ألفته بعد هذا الكتاب من دراسات أخرى حول مسألة الصهيونية في أدب كافكا.

وإلى جانب أدبية سعد الدين وترجميته، كان صحفيا مرموقا أشرف وحرر وترأس منابر ثقافية تدور في مجال التراث الشعبي وثقافة الأطفال والفلسفة.

ولئن كان الأدب هو عشقه الأول ومعه تأتي الترجمة، اتخذ سعد الدين من ذائقته المرهفة والوديعة أداة عليها يعتمد في انتقاء المواد المترجمة وكمعيار يغنيه عن أن يضع لنفسه أطرا أو مساقات، بعكس غيره في المترجمين الذين ساروا على هدي مواضعات معينة ومعروفة في العمل الترجمي ممن لم يمتلكوا ما امتلك سعد الدين من رهافة الحس ورشاقة العبارة والذائقة الأدبية التي دوزنت ترجماته. فاجتهد في الفعل الترجمي غير هيّاب ولا شكّاك، مترجما كما هائلا من المقالات والدراسات، مبثوثة متونها في صفحات الجرائد والمجلات العراقية والعربية على مدى ستة عقود وأكثر، ممدا بذلك الثقافة العربية بكل ما هو جديد، مؤكدا أهمية الترجمة في تربية الموهبة وتنمية القدرات الإبداعية فهي الباب الذي يفتح للأديب خاصة وللمثقف عامة أبواب التأثر والتأثير وهي الطريق نحو تطوير الملكات والتعريف بالإبداعات من آداب وأجناس شتى. 

ولقد جمع الأستاذ سعد الدين بعض تلك المقالات في كتب، ومنها كتابه “حول القصة القصيرة” الذي صدر عن دار الحرية للطباعة ببغداد عام 1978 ضمن سلسلة “الموسوعة الصغيرة” وتميزت المقالات المجموعة في هذا الكتاب بأنها تدور في إطار واحد هو نقد بناء القصة القصيرة وتحليل تقنياتها كجنس أدبي ذي عناصر وأشكال وله قواعد وتقانات كتبها ثلة من النقاد الغربيين وجميعهم غير معروفين مثل ترتنويل ميسيون وبارك كمذكز ونانسي مور وروبرت اوبرفيرست وتوماس بيرنز ومارين الدود وجورج فريتاك وكونتن رينولدز.

وآخر كتب سعد الدين المنشورة من هذا النوع ( بحوث في الثقافة العالمية) وهو كتاب كبير وموسوعي تدور مواده في شتى الميادين الأدبية والنقدية والثقافية واللغوية والمعرفية.

والمؤكد في ما يترجمه سعد الدين أنه لم يكن يجري وراء ما هو معروف من موضوعات وأسماء واهتمامات، بل كان لوحده مدرسة يفتح بمعاوله الخاصة مجالات جديدة ومبدعة تتيح للآخرين أن يتابعوه فيها.

ولم يبغ الأستاذ كاظم سعد الدين من ممارسته الترجمةأن يكون ناقدا ومتى كانت الترجمة تصنع ناقدا إن لم يكن يمتلك قبل الترجمة وازعا أدبيا وحسا نقديا لكنه أراد من النقد ما أراده من الترجمة وهو أن يكون واسطة للتقارب والتفاهم به يوصل الجمال، واذكر أنه رحمه الله كان قد قال ذات يوم وهو على منصة اتحاد الأدباء بمناسبة تأسيس رابطة الثقافة الشعبية أنه ترجم ـ وهو لا يزال طالبا في المتوسطة ـ قصة كان قد قرأها فأعجب بها وهذا الإعجاب هداه إلى ترجمتها فنال عن ذلك هدية من المدرسة ففرح بها. ومنذ ذاك وسعد الدين يدرك أهمية الترجمة في توصيل فروع المعرفة المختلفة وتعميق العلم بها.

وكم كان فرحه سيزداد وهو شيخ الترجمة لو احتفت به مؤسسة من مؤسساتنا الثقافية وأطلقت باسمه جائزة أو انشأت له منبرا أو اعطته كرسيا أو سمت باسمه إحدى قاعاتها.

إن ما تمتع به سعد الدين من حس فني ووعي نقدي وذائقة ادبية تجعله لوحده مدرسة في الترجمة يجدر بمن يجرب خطواته مترجما أن يتعلم فيها فنون الترجمة على أصولها.

وما تركه الاستاذ كاظم سعد الدين من منجز ثقافي ثر يتوزع بين الترجمة والنقد والسرد والبحث في التراث الشعبي ـ بعضه منشور وبعضه الاخر ما زال مخطوطا ــ يمنح تلك المدرسة أحقيتها ويجعلها واحدة من مدارس قلائل في الترجمة في عالمنا العربي.

وأعدُّ هذه المدرسة مشروعا ينبغي أن تعمل عليه المؤسسات ذات العلاقة وتسعى الى تحقيقه موفرة في الآن نفسه نتاج سعد الدين الادبي والنقدي لاسيما نتاجه الذي شحت نسخه وربما بعضه مفقود.

وإذا لم يكن الاستاذ كاظم سعد الدين في حياته يبحث عن شهادة جامعية وألقاب علمية كالتي يبحث عنها المحمومون اليوم، ولم يكن همه الارتقاء في درجات ومناصب رسمية ودولية من التي يتنافس عليها هي الاخرى الوصوليون كما لم يضع في باله امتيازات ما تمنحه إياه مؤلفاته من صيت، فإن في رحيله يكون الامر واجبا وحقيقيا أن نعطي لاسمه الشأن نفسه الذي كان قد صنعه لشأننا الثقافي العراقي مع أن هذا الشأن متحقق له ضمناً ومتأت إليه طوعاً وأمراً .. رحم الله كاظم سعد الدين فقيد الثقافة العراقية وأسكنه الجنة.

عرض مقالات: