اخر الاخبار

استطاعت الفنانة التشكيلية الراحلة يسرى ألعبادي  الارتقاء بأعمالها وأخذ الواقع كنقطة انطلاق ثم سارت كفنانة متمكنة من أدواتها داخل فضاء لوحاتها مهذبة إياها ومعيدة تشكيلها وتلوينها لبلوغ هدفها الفني الكبير.

فرسمت العين، وميزت العصافير وعبرت عن المرأة وخطت بفرشاتها الرموز والأفكار لتعكسها وتعبر عن روحها، مقدمة بذلك عملية اكتشاف لوحاتها وما تحمله من المعاني التقنية والجمالية، من الوجهة الحسية، التي تستولي على التعبير الخاص بالرؤية الشخصية لأعمالها، فامتلكت إمكانات جديدة من التعبير محققة إمكانية عناصر تشكيلية جديدة خاصة بها لنقل المعنى وتضمين العمليات التي تسمو بالإمكانية الفنية وتحويلها الى أحاسيس صورية.

في البداية كان عملها يرمي إلى بناء التركيب الخاص بالواقعية وبالتالي عزل عناصرها التشكيلية للواقع أو العواطف الذاتية، مخلصة بذلك في تقديم فنها عن طريق مفرداتها، وخطوطها الفنية التي تحمل معها التأثير الكبير على المتلقي لخطوطها الفنية حيث تصدمنا بقوة الضوء المتوهج بواسطة الألوان المفعمة بالحياة.

كانت أعمالها تميل إلى اللاوعي والروح الطفولية والتعلق بشخصيتها التي تعكس أفكارها الفنية، فتأثر فنها بالحركات السائدة للمدرسة الانطباعية، وبعدها قدمت تجربتها نحو رسم مسطح يحمل بصمتها الخاصة.

اعتمدت يسرى العبادي طرقاً كثيرة منذ مشهدياتها الأولى إلى كل أعمالها ومعارضها الأخيرة التي يتجلى فيها حلم الحياة وانعكاسات الطفولة التي تسكنها علامات ورموز، ولكنها عادة ما كانت تميل إلى الطبيعة وسرمدية الفضاء وكأنها تريد إعادة صياغة الواقع، حيث أنها كانت شديدة التأثر بأعمال فنانين كبار من حيث تقديمها للوحات تمثل تعلقها بالأرض التي شهدت طفولتها وانبهارها بالطبيعة انبهارا رافقها حتى أخر معارضها.

 ولا شك أن الفن الذي قدمته يسرى العبادي عادة ما يقارب فناني الحركة السريالية، من حيث أطلاقها العنان للأحلام والرؤى والتخيلات التي ترسمها على الورق أو القماش على وفق تصورها الفني الجديد، حيث صار الوجه لديها مجرد خطوط، والأجسام أضحت أطيافا تتموج في الفضاء، فأنجزت أعمالا بدت فيها كأنها تلهو بفضاء اللون، مصرة على تدمير شروط الفن التقليدية مزيلة عن لوحاتها شروط الرسم المنظوري، فصورت لوحاتها المواجهة بين الذات البشرية والواقع الطفولي الذي تحمله أفكارها وإبداعاتها لتخلق وجودا إبداعيا بالمعنى الحرفي. لقد أتبعت ألعبادي مدرسة فنية تحاكي أعماق الذات ورؤيته التي تؤشر بروز عنصر قوي من حب الذات في أعمالها ، مقدمة لوحاتها الفنية مصورة من خلالها مدرسة التحليل النفسي والبحث عن فنتازيا عالم الطفولة الذي تعيشه وما تحمله من براءة تمثلها ألوانها وخطوطها ونصوصها، ذلك العالم الذي ما زال يحمل الكثير من الأسرار التي تثير الدهشة والتأمل وروح العفوية في ذاتها البشرية، فلوحاتها تقدم الفرح والسعادة الطفولية التي تجعلها تزيح أعباء الحياة اليومية، بلا وعي وبدون أن تتحكم في حركة اليد على ظهر اللوحة.

أن ما وصلت إليه الفنانة يسرى ألعبادي هو نتيجة ما تحمله من رؤية فنية وموهبة فذة جعلت من خطواتها الفنية تسبق خطوات الكثير من الفنانين من أبناء جيلها للوصول إلى هذه المكانة الفنية وتجلياتها بما تحمله من فطرة وإمكانية، فطريقة فنها تحمل الكثير من القيم الجمالية التي تأسر العقل وتشحذ الوجدان، وما تقدمه يمثل مرحلة الطفولة وتخيلاتها محاولة منها للفت الانتباه إلى لوحاتها، وهي أفعال أو لغة يصعب التفكير بها أو قراءة انتمائها لأنها تمثل لحظة الدهشة واكتشاف العالم الذي لم يرَ بكل أبعاده ، فالرؤية لدى الطفل شمولية وخيالية فيها من الاتساع ما لا يمكن أن يصل إليه الراشد، لهذا تشكل هذه اللحظات للراشد أحلاما تعبر خاطر الإنسان فتثير شجونا كانت كامنة تتكدس فوقها عشرات اللحظات والأحداث التي حفرت ندوبا سحيقة في أعماق عاشها خلال نضجه فترتفع لحظة احتدام ثقل الحياة والواقع ومحاولة الهروب من ضغوطات الواقع، ولعل العناوين التي حملتها معارضها الجماعية أو الفردية التي عرضت فيها أعمالها الفنية التي تحيلنا إلى الأبعاد التي تشتغل عليها، وتحاول إيجاد المعادلة الموضوعية بين قدرتها في السيطرة على ما حصلت عليه من المعرفة والتجربة المتراكمة خلال دراستها للفن وبين الرؤيا الطفولية لأحلام ومخيلات لا حدود لها. رسمت يسرى المرأة وقدمتها بطريقة وملامح مختلفة يتسع فيها الجمال فلغتها الفنية تقدمها من خلال محاولاتها لتغيير رؤية الواقع بغير ما هو عليه، وهي تحاول الانتماء إلى تلك اللحظات والوصول إليها عبر اللون والخط وإعادة صياغة الحركة للشخوص، وإغداق هذا الوجود المحتدم بالصراعات والمشاكل والهموم اليومية لواقع الحياة العصرية بكل ما يحمله من ثقل، محاولة للوصول إلى البهجة والسعادة العفوية التي تحملها الألوان والخطوط والأشكال وحركة الشخوص، الذي يحرك جزءا من السرور والدهشة التي تمثلها براءة الطفولة وعفوية الطرح والبناء الذي تشيد عليه لوحاتها الطولية التي تصور عالم الأطفال الذي يحكي قصصاً طفولية طالما ظلت مشاهدها في مخيلاتنا، فدأبت العبادي في معظم أعمالها إلى التشخيص الطفولي بحركاتهم وأشكالهم ووجودهم في عالمها الخاص وهو الطابع الغالب على أعمالها وان افترقت في كل مرحلة وبين معرض وآخر بالإحساس والحجوم ، فظلت لفترة تقدم بإحجام صغيرة ثم انتقلت إلى المساحات الكبيرة أو بتغيير الأنماط التي تتعامل معها وتشخيص الافكار، إلا إنها ظلت تبني لوحاتها على أساس مشاهدات الفرحة والعفوية وأشكال ما يسمى في فن المسرح (الفرجة)، اشتغلت على الألوان المبهجة والألوان الحارة بالذات، وعلى الرغم من وجود اعمال بخلفية ألوان باردة، إلا إن الطابع العام للإكسسوارات كان بألوان مبهجة وحارة، وهو ما أسست له بهذا المزج بين اللون الواحد وإدخال لون رديف يكسر رتابة اللون الواحد في خلفية اللوحة، ، متمثلة بين البساطة في النص وبين امتلاء اللوحة بدسامة اللون، لقد قدمت في كل معارضها السابقة ما يبرهن على قدرتها في استخدام اللون وإبراز قيمتها للرؤية البصرية مما جعل لوحتها بأبعادها الجمالية، ذات قيم نصية مشتركة، رسمت وتشكلت بتكوينات جمالية، فمن يمعن في هذا النسج المتجانس من الخطوط والألوان يدرك اختيارات يسرى لطريقة رسمها بحبكة مذهلة، في بعض لوحاتها ما يذهل وكأنها فنان استقى قدرته وموهبته بالفطرة أصلا، وفي أعمال أخرى نرى الأبعاد الجمالية لفنان متمكن من خطوطه تمنح المشاهد الشعور بأنها أعمال مدروسة لفنانين محترفين، إن اللوحة التي تشتغل عليها الفنانة يسرى العبادي، توحي بذلك الجهد الجمالي وكأنها توشي اللوحة من دون أن تثقل عليها، تاركة الحرية للوحة في أبعادها الجمالية، فتكوين لوحات يسرى العبادي بكل ما تضم من المساحات والفضاءات بحيث يشعر المتلقي أن كل تفاصيلها مدروس وميزة التشكيل العاكس لجمالية التكوين بين الكتلة والفضاء، فلوحاتها حرة غير مقيدة، تمثل تجربة الدهشة والتأمل الأولى لحرية الفكر عندها، فهي تهتم بالكتلة على أساس التوافق بين الرؤيا للحياة وبين جمالية البناء العام للوحة، ليتحقق هذا التكامل المدهش في عناصر لوحاتها، وعلى الرغم من المساحات الواضحة للخلفية عندها وإلغاء البؤرة المركزية لقاعدة بناء اللوحة، لتجعل سطح اللوحة ذات منظور واحد، فتنتج عملا متجانسا من منظورها الخاص ومن المشاهدات العامة تستنطق فيه القيم الجمالية لخطوطها، فقدمت النخلة بطريقة مميزة من خلال أشتغالاتها الخاصة بها فمثلتها بالمرأة بكل ما تحمله من خصب وحب وحنان . اللون عند يسرى العبادي يتلخص بكثافة ودسامة لإظهار النص، وعادة ما يدخل الأزرق بتدريجاته السماوية وعندما رسمت الأخضر والأحمر قدمت التشابك اللوني الذي يعكس البعد الجمالي الكثيف الموضوع بحرفية عالية وغاية في الإتقان، فأختارت الأسود لتعتمد على تحقيق الألوان الأخرى لقيم البعد الجمالي، كأنها تنفذ بلوحاتها العيد وافراحه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مترجمة وقاصة وناقدة تشكيلية عراقية.

عرض مقالات: