اخر الاخبار

أن مهمة الأدب عامة والرواية خاصة هي أعانة  الأنسان على فهم ذاته  وتطوير عاطفة الصدق عنده ومحاربة  الشر في الآخرين والعثور على الخير فيهم  0 فالروابة هذا الفن الرفيع  تحمل غاية وهدفا وما الشكل فيها الا وسيلة توصيل أن أنقطعت الرؤى 0 فالمضمون من خلاله تكتمل رسالة الكلمة التي هي رسالة يجب على الكاتب أن يحسن أرسالها0

أذا العملية الأبداعية باختلاف أشكالها وتبيان مضامينها عملية فنية تسجل أنسانية الأنسان منطلقة من واقعه بكل موجوداته وأبعاده منبثقة من خياله ورؤاه الفكرية وهذا ما يجعل الفن الروائي فنا  لفظيا محتضنا لتقنيات أبداعية وتجارب أنسانية بجميع متناقضاتها 0

أستطاع هذا الفن وبزمانه التاريخي المفتوح أن يعبر وبمستويات أبداعية ودلالية عن الفيض الأنساني  المتدفق  بروح العصر عبر لغة تعتمد الأنزياحات اللفظية ورمزية مشحونة بعمق دلالتها 0

فالكاتب الروائي يحاول في كتاباته الغوص في النفس الأنسانية لأكتشاف مكوناتها والتعمق في التاريخ ومحاولة فرش أسقاطاته على الحاضر كونه يدخل في نسيج النص من خلال حركة السرد الحكائية وبذلك خلق عوالم خيالية أكسبها أبعادا واقعية ضمن مكونات المكان فقدم بذلك رواية حياة أجتماعية منتظمة التشكيل تلفها وحدة عضوية بكل تناقضاتها المتصارعة 0

فالكاتب السوداني الطيب صالح في روايته “موسم الهجرة الى الشمال” تختلف عن باقي رواياته ، لأن أغلب رواياته تبدأ متماسكة ثم تتفكك عدا هذه الرواية حيث تبدأ مفككة ثم تتماسك وهذا ما جعلها رواية متميزة وهذا مافضلها  وأضفى عليها الكثير من التكثيف والتناغم والحراك فكانت ثيمتها تحمل وتحاور خاصية جديدة تناقش  بموضوعية صراع الحضارات بصيغة وعي أنساني فكانت سمتها الفنية جلية وطاغية على مسار الحدث وتجلياته.

وقد أستطاع الطيب صالح من أن يوصل رؤاه وتصوراته بشكل سليم للقارىء مراعيا الجوانب الفنية وموضحا الصراع بين العالمين ، عالم الشرق بكل تناقضاته وتقاليده وعالم الغرب المريض بالسيطرة والأستعلاء والتهميش 0 ولكي ندنو أكثر من معرفة البناء الفني التكنيكي للرواية يجدر بنا الألمام بالمحيط والبيئة والشخصيات في كلا العالمين الشرقي والغربي لنكون ملمين بالطريقة والأسلوب اللذين خلقا نجاحا وتفوقا أضيفا لعوامل كانت سببا في تكامل عمل الطيب صالح 0

أن الشخصيات الرئيسة في الرواية هي ( مصطفى سعيد و الراوي و حسنة بنت محمود و جين موريس )0 هذه الشخصيات مثلت في الرواية الصراع والتواصل والمثابرة وثنائية التقاليد الشرقية والغربية كونها أعتمدت صورة البطل الأشكالي بخلاف صورته الشائعة في أعمال روائية كثيرة 0 هذا الفهم الشمولي للمجتمع العربي طرح أيضا رؤية تاريخية وسياسية واجتماعية فجاءت الرواية بعيدة عن التصنع والترهل وقريبة من قضايا الهوية والأصالة والمعاصرة والعلاقة بالآخر 0

ان ثنائية الأنا الفردي والجمعي  يشكلان منهجا سرديا يوضح الآلية الفكرية التي تمخضت عنها تداعيات وأفعال كونت وألهمت الحدث برؤى وتصورات ومواقف كان لها المشهد السردي مسرحا للأبانة والتوضيح فبنت بذلك صرحا روائيا تصارعت ضمنه حضارتان الحضارة الشرقية والحضارة الغربية.

 أرى من خلال السرد أن الآخر  كان وعلى طول الرواية  يناصب الأنا العداء ليس في الغرب فقط وأنما في الشرق أيضا 0 جين موريس البريطانية هي من مثلت  الآخر في الرواية لأن لمصطفى سعيد معها قصة طويلة أنتهت بالزواج منها بعد مطاردة مضنية هو لم يكن يحبها أنما يهدف  لأمر آخر به يستطيع تطويعها وأذلالها.

أن القدرة الفنية العالية في فهم الظروف متفرقة أو مجتمعة هي من مكنت الطيب صالح من تحليل منظومة العلاقات المتشابكة بين الشرق والغرب   فضلا عن  براعته في رسم الشخصيات بشكل جعلها قادرة على تأدية الغرض ، لذلك أؤكد أن ثلاث شخصيات للأنا لعبت دورا في نسغ الرواية ، مصطفى سعيد بمواجهة الغرب والراوي في مواجهة مصطفى سعيد والغرب من جهة ومجتمعه من جهة أخرى وحسنة بنت محمود في مواجهة مجتمعها 0

يبقى مصطفى سعيد يتصدر الشخصيات لأن شخصية الراوي شخصية مغيبة لكنها في واقع الرواية تمثل الشخصية الثانية في الرواية كونها تعني المستوى الثاني للسرد والدلالة والذي عن عمد وقصد تركه الطيب صالح مغيب الأسم لكنه يملك كثيرا من صفات ومقومات مصطفى سعيد وهو أيضا أمتداد واضح له بحيث نشعر أن هناك رابطا خفيا يربطه بمصطفى  سعيد وهذا ما جعل كل منهما يفهم الآخر ويعرفه جيدا وقد يكون سبب ذلك سفر كل منهما للمكان نفسه لذلك كان دوره في الحدث دورا مكملا لمصطفى سعيد لم يظهره الكاتب بشكل علني خوفا على صيغة الحدث لكي لا يضع ضوابط قد ترهق الحدث وتحدث ترهلا لا يفيد النص ، ولمعرفة الدلالة الأجتماعية وتطور البناء الدرامي في رواية موسم الهجرة الى الشمال علينا التعرف على  شخصية مصطفى سعيد التي تعد محور الرواية 0 مصطفى سعيد شخصية سودانية طموحة الأهداف و غريبة التصرف تحمل طاقة عنف تحدث مأساة في المكان كونه منتميا لمجتمع قرية مستعدة للموت دفاعا عن  المكان الذي هو انتماء روحي وعقائدي لذلك مصطفى سعيد رغم تعليمه المبكر ظل أمينا على عاداته وتقاليده حين كان  في الغرب 0

انه شخصية خيالية خلقتها بنية الكاتب الفكرية تستمد وجودها من مكان وزمان معينين خلقا شخصية سياسية وأجتماعية وأقتصادية حددت هوية  البطل ومصيره 0 هذه الرؤية تتفق جزئيا أو  كليا مع بطولة مصطفى سعيد التي أتسمت بحصانة فكرية ونفسية سندته في مواجهة واقع بائس ومتناقض وأمدته بهاجس الفعل ورفض الأستكانة لأملاءات الواقع 0 شخصية تبحث عن قيم حقة في مجتمع يواجه قوى القهر السياسي في الداخل والخارج 0

أذا الأنا الفردي والجمعي في شخصية مصطفى سعيد خلقته ظروف سياسية وأجتماعية وتاريخية فكان صدامه مع الغرب وحضارته وثقافته ونزعته الأستعمارية الأستعلائية واضحا ومجسدا في تصرف وأعتقاد مصطفى سعيد الذي يضطر الى شن هحوم مضاد على الغرب مصرحا  (أنني جئتكم غازيا )وكأنه خلق محكوما بهذا الصدام مع الغرب لينتقم بطريقته الخاصة وبرغم أنه جاء للغرب للدراسة وهذا مؤشر جيد على سلمية الغاية لكن غطرسة الغرب وتعامله مع الآخرين بروح خالية من الأنسانية هو من جعله في صدام مستمرليس من باب العلم فقط أنما من باب آخر ظنه مؤثرا الا وهو باب عالم النساء   لأعتبارات نفسية قاسية عاشها 0

هذه المواجهات أزدادت وأحتدمت عندما التقى بند أكثر كرها وقساوة لحضارة الشرق وحياتها ( أنت بشع لم أر في حياتي وجها بشعا كوجهك) هذا الرد القاسي من جين موريس وهذا الوصف الساخط والمهين له زرع في نفسه حقدا وكرها للنساء 0 المفاجأة  التي فجرتها الرواية كانت فاجعة دموية حين أقدم مصطفى سعيد على قتل زوجته جين موريس التي خانته وبذلك شرعت الحادثة أمورا عدة أهمها لم يكن قتلها أنتقاما على طريقة (عطيل)، بل هو أنتقام حضاري وسياسي أستغله الكاتب ليبين ويوضح ماهية هذا الصراع بين الشرق والغرب كون جين موريس هي الجانب الآخر في الصراع ، فكانت السنوات السبع التي قضاها مصطفى سعيد في السجن دفعته للعودة لوطنه  برغم فشل هذه السنوات من ترويضه وأبعاده عما ذهب اليه ونادى به ألا أن عودته للوطن غيرت كثيرا من مواقفه وآرائه وأفكاره 0 زواجه من حسنة بنت محمود يعد مسارا جديدا سلكه لتطبيق مشروعه في وطنه فكان صدامه هذه المرة صداما  ثانيا مع الشرق بكل ما يحمل من عادات وتقاليد متخلفة 0 

لقد كانت حسنة بنت محمود بنت الواقع السوداني تمثل في الرواية أرضا بكرا يمكن حرثها وزرعها بأفكار وتوجهات جديدة جاء بها مصطفى سعيد معه 0 فكانت الأستجابة ناجحة رزق منها بطفلين فضلا عن أيمانها بتطبيق أفكاره التي رأت فيها طريقا صحيحا لرفض كل ما كان متخلفا في المجتمع الشرقي الأفريقي 0 لقد وجدت فيه شيئا جديدا وقريبا من نفسها وهذا ما جعلها تحبه 0 وبعد موته غرقا رفضت الزواج من ود الريس العجوز الذي يمثل أخلاقية المجتمع الشرقي وعاداته لقد كانت حسنة بعد وفاة زوجها تمثل مشروعا بنائيا تأثرت به وناضلت من أجله0

أذا جريمة قتل جين لم تأت من وحشية الشرقي بل من ردة فعل لما يعامل به من أزدراء وأستعلاء  وقتلها وبهذه الطريقة لم يمثل أنتصارا لمصطفى سعيد والشرق لكنه يمثل قدرة الشرق على مواجهة الغرب بالأسلحة نفسها التي يستخدمها الغرب في غزو الشرق 0

أن القيمة الفنية والأدبية في هذه الرواية التي تم اختيارها من أفضل مئة رواية في القرن العشرين  كونها جسدت ثنائية التقاليد الشرقية والغربية ضمن أجواء ومشاهد ما يزال تأثيرها الروحي طاغيا.

عرض مقالات: