اخر الاخبار

في ضوء حكاية الجريمة الأولى في التاريخ واللغة البدائية، كيف يمكن إستعادة وفهم الصراع ومستويات علاقاته اللغوية بين السلطة والعنف، وكيف تصل تلك العلاقات والأشكال اللغوية الى ذراها في التاريخ، بعد مرورها بأحقاب تحديثية وتطورية طويلة غير إن الجريمة الأولى لمّا تزل متخفية ومستمرة بمخزونها البدائي الثابت؟.

بمعنى، ان أية علاقة لغوية وعنفية أكتشفت في ما بعد الطاقة الحرارية والنووية في الحجر نفسه الذي تناوله قابيل ليقتل اخاه هابيل؟.

إن اللغة بوصفها طاقة بدائية، وقعت بعد الجريمة الأولى، ولم تشارك التعبير والروي في – قتل هابيل – وقت وقوع الحدث، وجاءت ضمناً وبشحنة مفرغة في الروايات والنصوص المقدسة في ما بعد، أخذة أشكالاً لسانية بين إعادة سردها من حقبة الى أخرى، وإقحام الوصايا والتعاليم الدينية والوعظية في سياقها اللغوي الى الحد الذي تبدو فيه جريمة متكاملة لخيار بشري باء بغضب إلهي وأصبح قانوناً «سنّة» لبني إسرائيل» «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً»( قرآن كريم سورة المائدة)، وتعد الخطيئة الثانية بعد نزول آدم من الجنة، ولكن اللغة بطاقتها البدائية، تكتشف لتوها إستعارة الحجر الذي يتناوله قابيل ويضرب به أخاه، وتبقي مراسيم الدفن الى حين يرى قابيل كما في رواية القرآن الكريم أو كما يريان «آدم وحواء» في رواية الحاخام برقي اليعازر، غراباً ينشب مخالبه في التراب ليواري غراباً آخر ميتاً، أي أن اللغة الأولى لم تكتمل أمام القتل الأول، ولم تشترك على نحو مباشر مع النظام الأجتماعي المبكر، وظلت مقيدّة في كهفيتها البدائية التي يكتسب فيها الصوت البشري لغته بواسطة الملاحظة والتجربة من الطبيعة، بمعنى ان اللغة البدائية، تمتلك قدراً كبيراً من براءة التمفصل مع أية سلطة حقيقية أو رمزية حتى جاء الشكل اللساني الذي ينطق به الصوت الألهي في الغالب من خلال المروي والمدوّن في النص المقدس في الوقت الذي يشهد النظام الأجتماعي تطوراً وتكاملاً مع اللغة.

وحسب سوسير،يشعر البدائيون بأن اللغة عادة أو تقليد كالملابس والأسلحة والطبخ والسكن، وما أن ترتقي هذه العادات والتقاليد، وتخرج من كهفيتها المبكّرة الى أن تترسخ مكانيتها وزمانيتها حتى تتمكّن اللغة من تحديد نمطيتها الثقافية أسوة بباقي الأنماط الاجتماعية.

ومع مرور الوقت، أدمجت الجريمة الأولى في الإرتقاء اللغوي، وانتقل الجوهر الفطري الانساني العنيف الى اللغة بوصفها ملكة بدائية ونمطاً ثقافياً مكتسباً أيضاً،مشاركاً في منظومة السلطات فالصراع بين قابيل وهابيل، كان كامناَ في اللسان الأول البشري، ولم يأت حسب ما شكّلته الروايات المقدسة بالشكل اللساني على نحو مباشر بين الأخوين، إنما جاء وفقاً لمحور الخير كارادة إلهية يمثلها هابيل والشر والخطيئة  كمبدأ، يخص الخيار البشري.

إن الرواية الدينية لا تريد حتماً نقل الصراع الإنساني بشكل مباشر إلا عبر أفقه السماوي الاسطوري ولكن الرؤية المضادة داخل النص الديني، تُظهر الشحنة المفرغة للصوت البشري الأول الواقعي، ولذا فان إعادة تشكيل الصراع وإنزاله من بعده السماوي الى البعد الأرضي، هو طريقة تفكير في تغيير هيكلي وبنائي وتحويلي معاً.

لقد إرتقت الأنماط الثقافية ومنها اللغة، وتداخلت علاقاتها في سيرورة منظمة من النمو حتى برز دور القوة وبناء السلطة ليختفي العنف والجريمة الأولى ورائهما، فالحجر الأصم الذي تناوله قابيل وقتل أخاه، سرعان ما أسنّ وشذب ليكون أكثر مضاءً وإنباءً، ولم تمر حقب طويلة حتى أستخدمت مواد أخرى لتنتج أسلحة أشد فتكاً، وصلت الى حروب شرسة وإبادات كثيرة، كان العنف فيها ونواته الأولى لا يختفيان من التأريخ بالرغم من تطور النظام الاجتماعي والتفوق الفكري وتعاقب الحداثات الثلاث - الزراعية والصناعية والتقنية -، وتركز السلطة والمؤسسات وعلاقاتهما مع المجتمعات وتمترسه ورائها.

إن نواة العنف التاريخية، أخذت دوراً ثانوياً أمام الأرتقاء الفكري والعلمي إذ شبهها ماركس بالآلام الناتجة عن الولادة دون أن يشعر بها الوليد الجديد، وأعطى الأولوية للتناقضات في العالم، ورأى فرويد ان العنف المسيطر عليه والذي يتحول الى قانون، لا يقدر بثمن، وضرب مثلاً بالسلام الروماني للدول المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط كما أكد بأن جشع ملوك فرنسا لمدّ نفوذهم، خلق بلداً مزدهراً بطرق سلمية، وهاتان الرؤيتان، في أن التاريخ قابلة العنف الماركسية، والرؤية الفرويدية للعنف المسيطر عليه والمتحول الى قانون، لاتنفيان العنف في عملية التغيير وبناء السلطة وعلاقاتهما مع المجتمع بل تمهدّان للقوة الأساسية المهيكلة للمجتمع – أي الدولة – ويعملان على تنظيم وإحتكار العنف في شكل لساني جديد، أبعد من الشكل اللساني البدائي، أنه الشكل الذي يُرجع الصراع الى المنازلة المباشرة على الأرض بدلا من السماء.

وما أشبه القانون الروماني في ظل الطغيان الذي لم يقدّره فرويد بثمن بالقانون « السنّة» الذي جاء في النص المقدس في إثر الجريمة الأولى» من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه «من قتل نفساً بغير نفس او فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً»

ترى حنة ارندت، ان النظام الأجتماعي «ينسحب ليأخذ دوراً ثانوياً أمام إكتساح الحرب النووية الحرارية «وبدلاً من القول ان الحرب استمرار للسياسة والدبلوماسية، نقول ان السلام استمرار للحرب، والنظم النمائية والاقتصادية هي في خدمة الحرب».

ويعني هذا ان العلاقات بين السلطات والعنف داخل النظام الاجتماعي، تعيد تشكيل الوقائع بتكرارية نسبية بين الأنظمة البدائية والدينية والمدنية لتصل الى ذراها كما تصفه ارندنت «إنقلاباً في مستويات العلاقات» إذ يغدو النظام الاجتماعي والسلام وخطط التنمية والتفوق الفكري والتقني في خدمة أطروحة الحرب والعنف وإعادة تشكيل الجريمة الأولى، من سّنة بني اسرائيل الى القانون الروماني وحتى اللوائح الدولية، ويبدو إن المنسحب أو العائد الوحيد من هذا الانسحاب هو اللغة التي تستعيد بناء الأشكال اللسانية بين البدائي والديني والمدني، وتعمل على كشف نواة العنف ومستوى علاقاتها مع السلطات.

عرض مقالات: