اخر الاخبار

قد يكون الوطن مكاناً للألم وقد يكون الالم هو وطن لعاشقين افترشا احزانهما على ارصفة الموانئ البعيدة يواسيان ارواحهما الثكلى ببريق المدن التي اوتهم اجساداً وتركت ارواحهم هائمة في فضاءات الاسئلة لدى كثير من مبدعي العراق ومثقفيه ومنهم الفنان التشكيلي عباس الكاظم.  وإذا كان الفن في احد جوانبه اختزالا جماليا للحياة فانه عند عباس الكاظم جمال مطعون بالوحشة والذهول وقلق الوجود الانساني اذ انه بضربات الفرشاة ونزيف الالوان يوقد الفنان في اللوحة ارتداد الالم ويفجر فيها رعشة الحياة واحتدام الرغبات  القتيلات بخناجر الحرمان والتعسف؛ قد لا نضيف جديداً اذا قلنا ان الفن التشكيلي هو اللغة العاطفية الاولى  للإنسان قبل اختراع الكتابة  ففي سفر الغربة هذا يبقى الفنان حاملا في خزائن لا وعيه وطنه وشعبه وكل ما يمثل جذوره التي يمتاح منها ما يتمظهر في اعماله التي هي الاستجابة الضرورية المعبرة عن تفاعل الانسان مع عالمه الموضوعي هذا التفاعل الذي انتج اعمالا فنية نلمس فيها تأثير التلاقح  ما بين خزين الفنان الوطني والتجربة التي فرضتها حياة الغربة والتي افاد منها الفنان ممثلة في الدراسة الاكاديمية للفن التشكيلي في روما وكوبنهايكن وثقافة المدن الحديثة وتأثيرها الاجتماعي والبيئي الذي يظهر في عمل الفنان والوانه من حيث توظيف الطبيعة كعناصر تشكيلية وبواعث واشارات سيميائية تشكل لوحة عباس الكاظم وعالمه التشكيلي الذي لا يطابق العالم المرئي غير انه متماهيا مع أعماق النفس البشرية مكتنزاً بالاسرار ومنغلقاً على جمال التجريد .  تنقل الفنان الكاظم منذ بداية حياته الفنية في سبعينيات القرن الماضي كطالب في معهد الفنون الجميلة في بغداد من الواقعية الى التعبيرية وصولا الى التجريد في رحلة بحث طويلة متأثرا بمجمل التراث الفني والانساني ولم يكن نمطيا مقلدا بل هو مختلف متمرد يميل الى المغامرة وقد ادرك منذ بداياته ان الفن التشكيلي  لا يمكن ان يكون  حبيس اللحظة التصويرية للعالم المرئي بل هو تعبير عن كل التداعيات الفكرية والاسقاطات النفسية وهو حر طليق في الاستقاء من كل التراث الانساني غير المحدود بزمان او مكان رموزاً واشارات بما يتفق مع رؤاه الجمالية ورسالته الفنية.                                                                وفي سبيل ذلك دأب على تطوير تقنياته الاسلوبية وادواته الفنية محاولا ايجاد اشكال بصرية جديدة تؤدي دورها الرمزي والدلالي في التعبير عن اهدافه التشكيلية ؛ فجال في هذا الفضاء حالما وعاشقا ومجنونا ؛ منتصرا حينا  ومنكسرا حينا اخر يلاحظ آلام الانسان ومعاناته ليشكلا ثيمة اساسية تتمحور حولها  اعمال هذا الفنان، حيث الجسد يتحول الى عنصر تشكيلي ومفهوم فلسفي يعبر عن اسرار الروح التي تسكن هذا الجسد وعذاباته ومعالجة ذلك معلنا ذوبان معاناته الشخصية بالهموم الانسانية العامة وتكريس نشاطه الفني لتلك المبادئ وجاءت عنوانات لوحاته المهمة لتدلل على ذلك مثل (الآلام المعلقة) وهي جدارية مكونة من 96 لوحة صغيرة تمثل معاناة الشعب العراقي وايضا عمله الموسوم (ارواح بشرية) الذي استخدم فيه طبع الاجساد البشرية على قماش اللوحة وهو جدارية بارتفاع 7 م وطول 12 م تعد اكبر عمل تشكيلي في الفن العاصر.               

 عباس الكاظم إدار معرض (تحت سماء أخرى) الذي خصص للتشكيلين المغتربين بعد اقناعه وزارة الثقافة الدنماركية بتحويل مكان مهجور في كوبنهاكن الى متحف للفن التشكيلي .

وايضا دخوله في تجربة الاعمال التركيبية التي حاول فيها صنع جسرا يصل بين الحداثة التشكيلية و الجمهور العام كاسرا بذلك الحواجز التي ادت الى اقتصار جمهور الفن التشكيلي على النخبة المثقفة والمختصين بدراسة الفنون بسبب توغل الفنانين بالتجريب وابتكار اشكال بصرية جديدة صانعين بذلك فلسفة تشكيلية جديدة وتخلف الجمهور العام من ناحية الثقافة الفنية والبصرية وعدم تقبله لكسر الاشكال الطبيعية وبالتالي لم يتمكن من تكوين ذائقة فنية جديدة تنسجم مع التطورات التي احرزتها الحداثة التشكيلية لذلك يمكن لهذه الاعمال ان تجد قاسما مشتركا بينها وبين الجمهور العام دون ان تضحي بما حققته الحركة في نضالها التجريبي، في عام 2000 كان عمله في ساحة معتقل الخيام الذي اقامته اسرائيل في المقلع جنوب لبنان استخدم فيه بقايا المعتقل المكون من ثمانية اسرة قديمة وفوقها شبكة وظل جندي اسرائيلي وهو عمل يدين التعامل اللاإنساني مع المعتقلين. وفاز عمله (هوية وطن) في عام 1998 بالجائزة الاولى في بينالي القاهرة وجائزة اليونسكو لترقية الفنون في آن واحد هذا العمل المكون من سرير قديم بلا شبكة للنوم يقف مائلا علي كثيب رمل والشبكة قاعدة السرير تظهر تحته ممثلة في ظل مرآة ؛ هذا العمل الصامت الذي يشعر الناظر اليه بزعزعة امنه الداخلي ويقلق حاضره ومستقبله لان السرير من حيث الدلالة النفسية رمز الطمأنينة والاستقرار والهدوء والبيت والعائلة والوطن. وطن الفنان الكاظم يحيلنا الى قراءات عديدة مفتوحة على فواجع مؤلمة يؤشر قدرة الفنان وجرأته في اختيار عناصر العمل من مواد مألوفة وعتيقة السرير معادل للأمان والاستقرار المرآة معادل للذات والوجود الإنساني الرمل الصحراء التيه الضياع وضعها الفنان في سياق تفاعلي مفجرا بذلك الطاقة الكامنة في هذه المواد من حيث التوافق بين ما يطرحه اللاوعي غير الارادي والرؤية التشكيلية للفنان لتقدح منتجة عملاً يمتاز بالجمالية والبساطة والعمق الدلالي.