اخر الاخبار

تعددت التسميات التي تطلق على الهبّة الشعبية  الثورية العارمة  التي شهدها العراق بدءاً من الأول من تشرين الأ ول في العام 2019  وعادت  ذكراها الثالثة قبل أيام.و لعل ابرزهذه التسميات  “ احتجاجات تشرين “ و”انتفاضة تشرين “ و” ثورة تشرين “. وإذا ألغينا تسمية “ احتجاجات تشرين “ من حسابنا لأنها محض تسمية إعلامية، فإن التسميتين الأخريين تنتشران على نحو واسع.

لنتذكر أولاً أن لدينا مناسبة وطنية تحمل تسمية “ انتفاضة تشرين “ هي تلك التي حدثت في تشرين الثاني في العام 1952 وانتهت بما يشبه الإنقلاب العسكري وقيام حكومة برئاسة الفريق نورالدين محمود رئيس أركان الجيش آنذاك. ونذكر أيضاً أن الشعب المصري الذي كان قد عاش هبّة شعبية ثورية مماثلة في ميدان التحرير في القاهرة في كانون الثاني 2011دامت شهراً واحداً وقدمت مئات الشهداء والكثير من الجرحى وانتهت بإسقاط نظام  حكم حسني مبارك وتعرف الآن بإسم “ ثورة يناير“.

  ما حدث عندنا  ليس محض انتفاضة وقتية عابرة. انه حراك جماهيري واسع إزداد  زخماً يوماً بعد يوم  وكان قد غطى  ساحات إحدى عشرة محافظة مع تضامن معلن أو مستتر في ثلاث محافظات في الوسط والشمال ( لا أعني محافظات الاقليم )، وسالت دماء مئات الشهداء وألاف الجرحى  وتم اعتقال وتغييب عدد لا يعرف حتى الآن من العراقيين. إن هذه الهبّة الشعبية الواسعة تحمل كل مواصفات الثورة: بسعة المشاركة الشعبية  وتعدد وتنوع الأطياف المشاركة فيها، بعدد شهدائها وجرحاها ومغيبيها ( وهو ما لم تشهده أية انتفاضة سابقة مماثلة)، ثورة بما أحدثته من متغيرات في الواقع السياسي والاجتماعي: تخلخل التشبث بالطائفية، انتصار التلاحم الشعبي، المشاركة الواسعة للمرأة في خضم النضال من دون خوف أو تردد، طبيعة الشعارات المرفوعة، وأخيراً وليس آخراً ما تحقق من أهداف حتى الآن وفي المقدمة منها سقوط  الحكومة  السابقة. لنقل إذن أنها “ ثورة تشرين “، فما الذي تعنيه ثورة تشرين  بالنسبة للمثقف الوطني العراقي ؟ انها بالتأكيد تعني نقطة تحول في التاريخ السباسي العراقي وفي تطور طبيعة النضال الجماهيري وما آل إليه من نتائج لم تيلغها أية انتفاضة أو ثورة شعبية سابقة في العراق من قبل مع احترامنا لها جميعاً وهي جميعاً لم تُحدث تغييراً في بنية النظام السياسي باستثناء ثورة 14  تموز 1958. لقد سبق لنا أن شهدنا انتفاضات شعبنا بدءاً من وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948 ووجدنا حجم التطور النوعي الذي حدث على أسلوب النضال الجماهيري واستقطاب شرائح واسعة من أبناء الشعب وقف الشباب طليعة متقدمة فيه وقدموا من التضحيات ما لم يكن يتصوره أحد، ولايزال  زخمهم يتواصل  وستكسب المزيد من الزخم إلى أن تحقق أهدافها. لقد كان دور العديد من المثقفين الشباب وحتى الكهول منهم دوراً مشرفاً  وهو ما كان منتظراً منهم بوصفهم طليعة الشعب الواعية. أما الشيوخ منهم فكان تعاطفهم الروحي واضحاً وإن  لم يستطيعوا أن ينغمروا في لجّة الكفاح اليومي على نحو مباشر. وإذا كان العطاء الإبداعي لا يتجلى على نحو مباشر في أيام الثورة، أية ثورة، لأن المثقف الواعي سيظل منغمراً في عنفوان نشاطها  اليومي، ومن هنا قد يتأخر تفجّر عطائه الابداعي بعض الشيء ومن المتوقع أن يتجلى مثل هذا العطاء بابهى صوره بعد أن تبلغ الثورة ذروتها وتحقيق الأهداف التي قامت من أجلها، ويجد المثقف نفسه عندئذ مطالباً بالتعبير عن مكنونات نفسه وقد عاش  أيامها وشهورها على نحو مباشر. إن افضل ما كُتب عن الثورات في العالم لم يظهر على نحو مباشر في أيامها وإنما بعد تحقيق أهدافها وربما بعد سنوات من انطلاقها. قد يبدو ما يظهر أثناء الثورات والانتفاضات من ابداع ثقافي  محكومأ ً بالعاطفة أما العطاء الابداعي الحقيقي فيستلزم زمناً كافياً  لنضجه قبل ظهوره وهو في أوج صوره بعد أكتمال التجربة  وهذا هو المنتظر من المثقفين العراقيين لتوثيق صورة بهية للثورة !

عرض مقالات: