اخر الاخبار

تعالج رواية (خِلوّ) للروائي طه حامد الشبيب مفهوما قلّ تناوله في السرديات الروائية المعاصرة وهو الإحساس بالغيرة والحميّة على الوطن والتضحية من أجله، متخذا من آلام العراقيين التي تتوالى وتتراكم على مدار تاريخ العراق السياسي مادة لعالمه السردي، وبما أن اللغة هي اساس الجمال في العمل الابداعي بما تعكسه من ثقافة الكاتب وقدرته على انتقاء الكلمات التي يوظفها لنجاح عمله، وبما أنها من اهم عناصره ايضا بوصفها أداة لفك الشفرات وجلي الغبار عن المفاهيم والرؤى المطروحة، فقد حاولت في هذا المقال الوصول للإجابة عن التساؤلين التاليين: اولهما ما مدى نجاح الروائي في الاشتغال على لغة قادرة على تشخيص الألم العراقي؟ وثانيهما هل راعى وادرك الروائي في السرد والوصف والحوار مستويات الشخصيات الروائية؟

الفصحى والعامية بيتا الوجود الروائي

الرواية اعتمدت على تعدد الأصوات في اشتغالها، فقد تناوبت خمس شخصيات في تقديم النص الروائي وهذا يستوجب بداهة اختلاف مستويات اللغة باختلاف الافكار وما يشغلها من هموم الحياة، والمحيط الذي تدور فيه الاحداث واختلاف الحقب الزمنية التي شغلت مساحة الروي، والرواية هنا لا تتوقف عند اللغة الفصيحة المعيارية واللغة العامية بل تتعداها إلى اللغة المحكية وما تمخض عنها من جنوح نحو الغرائبية وذلك كون الرواية تتناول واقع الانسان العراقي في الحرب وفي ظروف الثورات والانتفاضات وفي حالات الحصار والفاقة وفي تبدل الحكومات وانتشار الفوضى واللامنطق، وما رافق ذلك من ألم نفسي نتيجة الغبن وسلب الحقوق الذي يدور في ذاكرة الرواية وهي تسيطر على معظم النص الروائي، بعد أن رأت وشهدت وسمعت قصصا وحكايات ومشاهد وصورا مؤلمة، باتت تحمل تجربة حياتية غنية، مما استدعى توظيف تقنيات رواية تيار الوعي مثل المونولوج والمناجاة والفلاش باك والحلم والرؤى، كل ذلك عن طريق السرّاد الخمسة (الراوي الرئيس، حاتم الديو، ابو الهدى، نشمية ام الخبز، الثائر ضرغام) وجميعهم قد اطلقهم الروائي في خطابهم معتمدا اللغة الجمالية التي لا تؤدي وظيفة اخبارية تقريرية ذلك ان العمل الأدبي له سماته على حد قول أوستن وارن ورينيه ويلك في كتابهما المعروف “نظرية الرواية”(1)

كانت لغة السارد الرئيس هي اللغة الاعلى في مستواها الخطابي وهي اعلى من لغة حاتم الديو وابي الهدى ونشمية ام الخبز ولكن هناك لغة تعلوها مكانة كانت هي لغة الثائر المثقف ضرغام الذي كان احد ثوار  تشرين رغم أن الروائي لا يشير صراحة إلى ذلك أنما يقدم دلالات وإشارات تفصح عن حيثيات ما جرى مع التشرينيين وهي تتضح على لسان ضرغام المتحدث باللغة الفصحى تارة، واللغة المحكية عندما يخاطب نشمية أم الخبز تارة اخرى، وهذا المستوى اللغوي الفصيح في الحوار خاصة يتطلب مستوى ثقافي عالي من ذات حاملة لأفكار ورسالة معينة، وهنا تكمن” الخصوصية الاستثنائية التي لها الأهمية للجنس الروائي وهي أن الانسان في الرواية هو جوهريا، انسان متكلم، فالرواية تحتاج إلى أناس متكلمين يحملون كلمتهم الإيديولوجية المتميزة، يحملون لغتهم الخاصة”(2) وهذا هو الحاصل مع شخصية ضرغام الذي يؤدي اغلبية حواراته بالفصحى خاصة تلك الحوارات التي يبين فيها دوره ودور أصحابه في قيام الثورة ومن هو الداعم لها والحاث عليها، كما هو الشأن في هذا النص:

“مـا أقـوم بـه فعـلا وأنـا أدون شـهادة نـشمية، الـتي شـجعته علـى أن يـتكلم  (بـالنحوي مثلهـا ).. يمـه خلـي ببالـك هـذا الرجـل معلـم..  إي.. فـلازم لازم تحكي بالنحوي مثلي حتى يقدر يكتب.

ضـحكتُ وضـحكَ. ثم.. دعـني أبـدأ مـن سـؤالك الأخـير. إذا كنـت  تقصد بالثقافة القدرة على التفكير المتأتية من القراءات الواسعة والإطـلاع علـى أشـكال الجمـال المختلفـة وغـير ذلـك ممـا لـه علاقـة  بهذا الأمـر، فأنـا  أجيبك بوضوح وأقول لا.. لا أحسب أن للثقافة، بهذا المعنى، من دور رئيسي في اكتشاف قدراتنا. أمـا اذا فهمنـا الثقافـة بوصـفها سـلوكا جمعيـا  قارّا في مجموعة بشرية، وما قرّ فيهم إلا بعد ترسخ وعي جمعـي يـبرر ذلـك السلوك ، فالجواب نعم “ (3).

ان لغة النص تنبئنا بالمستوى الطبقي والتعليمي بدءا بكلام نشمية باللغة العامية وانتهاء بكلام ضرغام وفلسفته عن معطيات الثقافة له ولأصحابه المعتصمين الذين يطمعون بحياة افضل وهم جعلوا من فكرة محاولة الحصول على انسانية الانسان عقيدة لهم وهذا ما توضحه النصوص الاخرى في الرواية وما تنطقه كلمات هذا النص المفعم بالبعد الايديولوجي الرافض لما يخالف وعيهم ومطالبهم، أما الكلام الذي بدأ به النص وهو لنشمية فهو ينم عن مستوى لغوي يفرض وجوده عندما يتوقف السرد ويبدأ الحوار وفي الرواية الكثير من ذلك، إذ أن الراوي يحيل الكلمة للشخصيات لكي تتحاور فيما بينها لتبين عن وجهات نظرها، وهي في حديثها هذا تعبر عن طبقتها الاجتماعية التي تصدر عنها؛ لذا فإن كل ملفوظاتها “تفوح برائحة السياق والسياقات التي عاشت فيها حياتها الاجتماعية بحدة وكثافة “ (4).

ولا يكتفي الروائي باستعمال الفصيح من اللغة في نقل حواراته فقد يقوم بتفصيح الدارج من الكلام ليجعله مفهوما ومن ذلك هذا النص” في هذه الأثناء تدخل علينا نشمية تحمل صينية فوقها استكانات ثلاثة ملأى بشاي غامق السواد، ينكسر سواده ببيـاض الـسكّر الـذي يمـلأ مـن كـل اسـتكان ربعـه  وفي وسـط الـصينية مـاعون تتكـوم فيـه قطـع معجنـات  قالـت نـشمية أنها هـي الـتي عملتهـا”(5). وفي ذلك اتجاه يقوم بتبسيط اللغة مما يجعلها قريبة من فئات مجتمعية كثيرة، وبالتالي خلق لغة وسطى للتواصل مع قراء كثيرين قد تستعصي عليهم اللغة الدارجة.

عمل الروائي على استخدام اللغة البسيطة في روايته ذلك أن اغلب شخوصه هم من الناس البسطاء فحاتم الديو كان جنديا بسيطا يقاتل في الحرب العراقية الايرانية وابو الهدى كان معلما ذا ثقافة محدودة لكنه يمتلك وعيا وارادة للتغيير ونشمية أم الخبز هي امرأة من عامة الناس كانت تقف مع المعتصمين وتساعدهم وتحثهم للمقاومة وتدعو النساء لخدمة الثوار ولذلك عبر الروائي عن تجربة حياتية بلغة مباشرة بعيدة عن التكلف ليصف الواقع المأساوي والحياة المريرة الصعبة التي يعيشها العراقي في مختلف الحقب الزمنية، وهذا ما دعاه لأن يترك السرد لشخصياته الروائية لتسرد الاحداث بلسانها وتقدم وصفا لنفسها لا يخالف الواقع المعيش، والرواية لا تعتمد على حدث يبدأ من نقطة معينة لينتهي في نقطة أخرى، بل هي عبارة عن تسجيل مشاهد متراكمة تشبه في اجتماعها عملية التصوير في فيلم وثائقي، لذلك فإن عمدة الرواية الرئيسة هي اللغة التي يجب أن توظف بدقة من أجل تصوير “المشاهد” ونقلها للقارئ، وإبراز الصراع بين الأنا والآخر، معتمدة الصراع الخارجي وبين الأنا والأنا نفسها حين يكون الصراع داخليا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 ـ ( (wellek,warren,p.p22 /23/ 1966للمزيد من التوسع ينظر ص20ـ 37.

2 ـ ميخائيل باختين، الكلمة في الرواية، تر: يوسف حلاق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ط1، 1988، ص109.

3 ـ ص213 من الرواية.

4 ـ   تزفيطان تودوروف، باختين،  المبدأ الحواري، تر: فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 11 بيروت، ط2 ،1996 ،ص215. 

5 ـ ص218 من الرواية.

عرض مقالات: