اخر الاخبار

خلال جولات منتصف الليل، في مِترو ١٩٥٨، يتعرّف بطلُ هذا السكيتش (أكثر من بطل صحافيّ واحد) على عدد من موزّعي صُحُف تلك الفترة الساخنة، أمثاله، يصيب في تشخيصهم حيناً، ويخطئ في أغلب الأحيان، لكنّه لا يتوانى عن حمل حصّته من الجريدة التي كُلّف بتوزيعها، ويتجاهل ما يوزّعه الآخرون، حسب أوقاتهم.

بُنيت حول مركز بغداد أحياء جديدة، كان المِترو يخترقها بصعوبة بسبب بُعدها وتشعّب طُرقها وطراوة الوعي السياسي لدى سكّانها، وأسفرت جولات الموزّعين عن تأليف جمعية لهم أسموها (اتحاد الأحرار)_ نسبة الى صُحُف ورِثت المؤسسةَ الرسمية التي أخذت في التقلّص والانكفاء على قراء نخبويّين، تحفّظوا على الاندماج بتيّار التجديد الجمهوريّ.

لم تكن مهنة توزيع الصُحف مخترَعة أصلاً، لكن الانتقال في أشدّ ساعات الحكم العُرفي العسكري حِلكة، كانت مفاجأة عاتية للفئة المثقّفة التي شتّتها القمع والرقابة كخيط نمل. كانت الجماعات المتفرّقة في مقاهيها، تنتظر قراءة أخبار المجتمع المدني الاعتيادية، فإذا بصُحُف (الأحرار) تحمل إليهم تقاريرَ حامضة، خالية من عطر الحِبر الاعتيادي. حروف محتشِكة في صفحة واحدة حسب، بحجم كيس ورقيّ صغير، كانت تسحبهم معها إلى أعماق السلالم الأرضية، الملاصقة لسلالم القصائد الشعرية الحرّة_ من النوع الأصمّ، المُفرَغ من موسيقى القوافي المجدولة بصبر طويل. (والحقيقة فإنّ تلك التقارير ستنسحب، وتحتكِر نشرَها صحيفةٌ واحدة؛ وموزّعها رجلُ بريدٍ متناوب في مِترو آخر الليل).

  قبل اختراع المِترو، كان الاتحاديّون التموزيّون يتنقّلون بشاحنات من طراز شيفروليت، يجذب زئيرُها ودخان محرّكها أدنى المخلوقات الصُحفية للجري وراءها حالما تدخل نطاق حيّها الناشئ على كتف المدينة الكبرى. كانت رائحة الأوراق الخارجة من أقباء المطابع_ رائحةُ الزيت المخلوطة بحمض الحِبر والعرَق والبَّول _ تثير حولها دوامةً من الصُّراخ المخلوط بسُعال الصدور اللاهثة خلف العربات. ثم جاء الوقت السرّي_ على شكل من الأشكال_ عندما اخترع مهندّسو الجمعية مِترو ٥٨، ونشروا أعجوبتَه بين سكّان الأحياء الطرَفية. (كان اختراع مِترو الصحافة بِدعة سرّية أكثر منه اختراعاً هندسياً حقيقياً).

توالى احتجاب الصُحف تباعاً، وظلّت صحيفة (الاتحاد الجمهوري) تقتحم الأحياء البعيدة، وتستقرّ أعدادٌ منها على تُخوت الأسواق الداخلية، تحدّق بعيون حمراء للأجساد الكسلى، المتراخية بعد سهرة ليلية في ملاهي النهر. غير أنّ الانهيار كان متلاحقاً، وحذَفَت محكمة المجلس العسكري من الرحلة الليلية للمِترو طبّاعين ومحرّرين وموزّعين، سجناً واغتيالاً. اعترضت المِترو مخاطرُ قاتلة، وكُرِّست الرحلةُ الليلية لتوزيع جريدة الاتحاد، في صفحة واحدة، ونشأت تبعاً لذلك عاداتُ اختفاء وتنكّر وتعبير رمزي مختلفة (مانشيتات ذات طبيعة مجازية، مزدوجة المعنى، نقاشات صاخبة مع ركّاب المِترو). إنّ بطلي الآخر سيظهر في هذا الجزء من رحلة التوزيع، أي بعد انطفاء جمعية اتحاد الأحرار، واشتداد الحكم العسكري، واختفاء البطل الأول، والتزام المِترو بخطّه السرّي الشديد (المتقلقِل بحِمله المتزايد).

تنكّرَ بطلي الثاني بزيّ صحافيّين غائبين، وصعد المِترو باسم أحد هؤلاء الأبطال الرمزيّين (إبراهيم صالح شكر، نوري ثابت، روفائيل بطي الأب، عبد الجبار وهبي، عبد الرزاق الصافي، شمران الياسري) قد أصبح محرّرَ الصحيفة وموزّعَها معاً (في أثر تقطّع الخيوط، وتمويه التحريرات). تجنّب الموزّع الاحتكاكَ بنوع آخر من الموزِّعين الوهميّين، الذين تكاثر عددهم على ندرة الصحف وانقراضها، فقد بقيَ الخليط المِتْرويّ مائجاً بخيوط صُحفية غير معروفة، فكأنّ الجبّانة التي يحفّها المِترو يومياً، تضخّ بأشخاص أغلبهم كانوا في الحقيقة مُخبرين لمحكمة مجلس الحكم العسكري. وبالطبع، فقد حوى المِترو آنذاك شعراءَ أرسلتهم الجبّانة، أو ارتقوا إليه من الأحياء الشعبية الجديدة، في موجات عاصفة. (صار المِترو نسخة مصغَّرة من عاصمة الأحياء والموتى على حدّ سواء، الأحرار والمحافظين كذلك).

  طلبَ موزّع الصُحف من راكبي المِترو تحريرَ صفحة جريدته الوحيدة (حسب خطّة مموَّهة هي الأخرى، تخفِّف من المراقبة الأمنيّة على صحيفته) فسأل سجيناً سابقاً أن يحرّر أهمَّ حادثتين في العام ١٩٥٩، انقلاب عبد الوهاب الشوّاف، ومحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد. وحينما صادفَ شاعراً متمرّداً على تقاليد جيله، رجاه أن يكتب عن أهمّ حادثين ثقافيّين عالميّين في ذلك العام، صدور مسرحية صموئيل بيكيت (في انتظار غودو)، وفوز رواية (دكتور زيفاغو) بجائزة نوبل. (أثمرَ أسلوب التحرير التعاوني هذا في تمتين الخيوط، وعقد وصلاتِ تحريرٍ تجريبية وخيالية أحياناً). لكنّ الموزّع اختارَ أن يكتب بنفسه عن بداية غزو الفضاء، وإطلاق علماء الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية سفينتيْ فضاء في وقت واحد. شرحَ بحماس لركّاب منتصف الليل مانشيت الصحيفة الرئيس: “سيفقد العالم السلام سريعاً، وتنشب الحرب النووية، فهل يُفترض بك أن تكون الرجلَ الأخير، الباقي على سطح الأرض؟).

  وعندما امتدَّ بالصحافيّ الأجل، خاطرَ في نقل الأجواء المتوتّرة على سواحل الكاريبي، وعلّقَ على فشل العملية الأميركية لغزو كوبا، ووصول العالم الى حافة المواجهة النووية بعد نصب الاتحاد السوفييتي مواقع صواريخ على ساحل الجزيرة المواجه لفلوريدا: “عالمنا أصبح قرية صغيرة تحت عيون الطائرات المتجسِّسة. وأنت يا صديقي، لو تعلم، أصبحتَ تحت نظر الآخر البعيد في طعامك ونومك مع زوجتك. وزيادة على ذلك، فهذه بداية قاتمة لإجهاض أيّ حركة ثورية في المستقبل”. وكتبَ أيضاً: “أيّ خدعة تلك التي يشيعها العلم عن سعادة الإنسان، عالمنا ممسوكٌ بقوة في قبضات أبناء جوبيتر وساتيرن؟”.

يمكنك القول إنّ بطلنا المخاطِر بحياته، سيعيش عاماً آخر، قبل أن يشلّه المرض. كان صدره قد احتشى بالسُّموم، وابطأت حركته وكفَّ عن نشر تقاريره بين الأحياء السفلى. قصرَ نشاطَه على ركّاب المِترو وحدهم، وكان آخر تعليق ناقشه معهم: “احسبْني، أيها الرفيق، شخصاً غريباً، رجلاً مُوَسْوِساً لا يثق حتى بنفسه. وإذا أخذتَ بنصيحتي، تجنّب أولئك الذين يبدون لك وحوشاً بشرية، جواسيسَ أو خراتيت، فأمثالهم لا همَّ لهم سوى قلب أنظمة الحكم في العالم الثالث”. وامتدَّ وسواسُ موزّع الصُحف، فشملَ أعداءً وهميّين، أشخاصاً ليسوا على حقيقتهم، كما زعم، ممثّلي مسرح أنهوا آخر بروفة، ورياضيّين يستعدّون للماراثون، وصيّادي سمَك عائدين من الشاطئ بقصباتهم الطويلة، وعمّال مطابع تجاريّة مُلوَّثي الأصابع، وصحافيّين مُنهَكين_ نعم صحافيّين من الجهة المضادّة_ وآخرين عاطلين عن العمل ومتسوّلين، وكان يصرخ في وجوههم، بحنجرة تالفة: “خبّروني من فضلكم، كيف يتقبّل شخص وظيفةَ كاتبِ ضبط في محكمة؟”.

وكان اللغط سائراً كرتْل من الخنافس (في مسلسل كارتوني) حين اندفع راكبٌ، مجهول الهوية، من جوف العربة، ووقف أمام الموزِّع، وواجهَه بصراخ مماثل: “صه، صه، أيها المتهستِر.. لا فرصة لديك كي تسبِقنا إلى نهاية الخطّ. قِطارُك يندفع بسرعة هائلة ليصطدم بحائطٍ انقلابيّ وشيك، قبل أن تتمكّن من إنهاء نوبة سُعالك.. نظام الحكم لا يثِقُ بنا فلماذا نَثِق به وبصُحفه؟ ها؟ صه من فضلك، ودعنا نطمئن على ما بين أيدينا”.

كان موزِّع الجريدة الثالث أكثر هدوءاً واتزاناً من سابقه، ولم يجد ضرورة للشكّ بالأشخاص المندفعين لنقْد عصرِهم، إذْ لم يرفضوا صُحفَه، ولم يعترضوا على بياناته وأحاديثه الجانبية. وكان عدد هؤلاء قليلاً جداً، ومنهم الشعراء المتخفّين عن الأنظار، فيما تبعث الجبّانة الصُحفية ما لا يُحصى من الأشخاص الوهميّين. (ومن مصلحة الحكم العسكري أن يختلط الوهم بالحقيقة، الصحفُ العلنية بالسرّية).

التقى الموزِّع الثالث (باسمه الرمزي) في إحدى الرحلات صحافيّاً، زعمَ أنّه شاعر ليس غير، وتكتّمَ على هويّته، وقدّمَ نفسَه بالأمير الوجوديّ، هذا فقط، على تناشُز اللقب. كان بديناً، عظيم الرأس، أخوص العينين.

_ تزعم أنّك ليس غير حسين مردان!

_ أليس المِترو صالوناً متنقّلاً بين الأزمان؟ إنّني أمير العربات الليلية وحسب.

_ ظننتُك من جبّانة الصحافة. إنّ الصدأ يكسو أجساد راكبي المِترو في معظمهم.

_ صِفْهم بما شئت. لكنّني ملئ بالحياة. الشِّعر مطلوب في ظلّ المحاكم العُرفية. أليس كذلك أيها الصحافيّ الغرّ؟

_ لستُ غرّاً. وما دمتَ شاعراً فسأكلّفك، على عادة سلَفي، بتحرير عدد من صحيفتنا الاتحادية. ألستَ جمهورياً رغم لقبك؟

_ هل يتوفر وقت لذلك؟ سمعتُ قبل أيام راكباً يزعم باقتراب المِترو من حائط نهاية الخطّ. الاصطدام حاصل لا محالة. هذا ما اعتقدته منذ صعودي العربة. جمهوريتنا تُحتضر يا صاحبي.

_ لا ضير من وجبة شهيّة قبل الإعدام. التنّور يفور، لكن خُبزه شهيّ ما دام الوقت بجانبنا.

_ يا لها من أمنية انتحارية.. عمري كنت أعمل في صُحف انتحارية! كلُّ شيء يلوح لبصري انتحارياً!

_ حقِّقْ لنا ما تظنّه المنحدر الأخير!

_ أوه. يا للمغامرة! مالي أرى الرّكاب العُراة يعرضون قشورَ أجسادهم الصدئة فرحين؟ يا لهم من صعاليك مشرّدين! تماثيل ملعونة! أفواه جائعة! أين الشمس تفضح هذا العهر؟

كأنّ الشاعر_ الأمير، يستولد مطالعَ قصيدة، فهو يجعلها تدور كزوبعة صفراء، داخل المِترو. بل هو من أثارَ القشورَ المتطايرة من الأجساد، بنظرة عينيه الثاقبتين، فيما يندفع المِترو مسرعاً، معزولاً عمّا حوله من أحياء ومزارع وسكك حديد موازية له.

_ لنصخَب بما يكفي لإثارة هذه الجِيَف.

_ لا أرى ضيراً في الصخب والغناء. نحن أبناء الصخب.

_ حقّاً؟ لكنّني لستُ ممّن يتركون الجنونَ يزعزع أرواحهم الهادئة، أيها السيّد. يا لحظّي التعس.. أين صِرتَ يا مهد يسّوع؟

قهقه الموزِّع بسفاهة، ما أزعجَ الشاعرَ المتبرِّم من قلْقلَة الأجساد الصدئة، وعبثِها المتزايد بأزرار التحكّم والسَّير الأهوج وسط الظلام. وما لبث زبَدُ القصيدة_ نشازُ المرحلة الأخيرة من أغنية الركّاب المتهستِرين_ أن صعدَ على لسان الشاعر، فوقف يقود اللحنَ المتقلْقِل إلى نهايته (وهو أيضا نهاية السكيتش المتناشز مع بداياته):

_ اندفعي أيتها القاطرة المجنونة، واسحبي خلفك هذا الحطام المسمّى حُكماً جمهورياً!

لتعوِ الذئاب، وليطلع القمر.

بل لا وقت للعواء،

رُفِعَت الأقلام، وجفّت الصُحف!

عرض مقالات: