اخر الاخبار

عبثا تحلمين شاعرتي                  ما من صباح لليل هذا الوجود

عبثا تسألين لن يكشف السر       ولن تنعمي بفـك القيود

قد أجد في هذين البيتين لنازك الملائكة خلاصة عزاء من المصير المأسوف الذي وصله مترو 1958 الذي جمع متناقضات عهد عراقي تقلبت به الأحوال من جمهورية مدنية مفترضة إلى حكم عرفي عسكري فشمولية توليتارية، تضخمت وهرمت ثم احتضرت احتضارا انتهى بمن على متنها إلى الانتحار الجماعي الإرادي. وقد عبّر عن ذلك كله هذا المترو الليلي، وهو يودي براكبيه إلى الهاوية الهوجاء جامعا الفرح بالموت والصخب بالغناء والوهم بالحقيقة مصطدما اصطداما متوقعا بخط النهاية الذي لا يبقي ولا يذر، تاركا انفلاتات وتناقضات صرنا نحن ضحايا تركاتها الأليمة، نادمين على حكم ملكي أضعناه، وحكم جمهوري أيدناه، وحكم عارفي قاومناه، وحكم شمولي اطعناه، وحكم فيدرالي ما لمسناه.

إن هذا الانهيار الذي عبر عنه ختام قصة (مترو  1958) القصيرة بكلمات الشاعر الانتحاري الوجودي الساخر(اندفعي أيتها القاطرة المجنونة، واسحبي خلفك هذا الحطام المسمّى حُكماً جمهورياً! لتعوِ الذئاب، وليطلع القمر. بل لا وقت للعواء، رُفِعَت الأقلام، وجفّت الصُحف!) لم يكن نتيجة لأحداث تم تصعيدها، ولا لشخصية قام السارد بتأزيم وضعها، وإنما كان تجريبا فيه اتخذ الكاتب أوضاعا عدة؛ أولا كمؤلف يعلق على نصه(يتعرّف بطلُ هذا السكيتش أكثر من بطل صحافيّ واحد) وثانيا كصحفي يكتب ريبورتاجا عن مهنة موزعي الصحف الرسمية وغير الرسمية في حقبة عصيبة فكانت المهنة خطرة وسرية، ليعود المؤلف للظهور معلقا ثانية(والحقيقة فإنّ تلك التقارير ستنسحب، وتحتكِر نشرَها صحيفةٌ واحدة؛ وموزّعها رجلُ بريدٍ متناوب في مِترو آخر الليل)

وفجأة يأتي السارد العليم وهو يسترجع أحداث قصة المترو(كان اختراع مِترو الصحافة بِدعة سرّية أكثر منه اختراعاً هندسياً حقيقياً توالى احتجاب الصُحف تباعاً، وظلّت صحيفة (الاتحاد الجمهوري) تقتحم الأحياء البعيدة) وسرعان ما يعود المؤلف بتعليق ثالث(إنّ بطلي الآخر سيظهر في هذا الجزء من رحلة التوزيع، أي بعد انطفاء جمعية اتحاد الأحرار، واشتداد الحكم العسكري.. تنكّرَ بطلي الثاني بزيّ صحافيّين غائبين، وصعد المِترو باسم أحد هؤلاء الأبطال الرمزيّين..) ويعود الصحفي مكملا كتابة تقريره عن الحقبة العصيبة ولكن المؤلف يقطعه بتعليق رابع (أثمرَ أسلوب التحرير التعاوني هذا في تمتين الخيوط، وعقد وصلاتِ تحريرٍ تجريبية وخيالية أحياناً). وبسرعة يظهر السارد العليم مجددا ثم يختفي بظهور المؤلف في تعليق خامس(يمكنك القول إنّ بطلنا المخاطِر بحياته، سيعيش عاماً آخر، قبل أن يشلّه المرض. كان صدره قد احتشى بالسُّموم، وأبطأت حركته وكفَّ عن نشر تقاريره بين الأحياء السفلى(وتنتهي القصة وقد تماهى المؤلف في السارد العليم وصارا والبطل كيانا واحدا(الاصطدام حاصل لا محالة. هذا ما اعتقدته منذ صعودي العربة. جمهوريتنا تُحتضر يا صاحبي)

إن هذا القطع والفصل والتحول والتماهي في تسريد قصة(مترو 1958) هو نتاج عابرية القصة القصيرة على أجناس وأنواع وأشكال أدبية كالريبورتاج الصحفي والحوار المسرحي والسيناريو التلفزيوني واللقطة الفلمية والقصيدة الومضة والتمرين القصصي. ليس ذلك حسب بل هو نتاج اجناسية القصة القصيرة التي بها صارت أكثر قدرة من غيرها من الاجناس على اختزال واقع يمور بالمتناقضات من خلال ما تتضمنه من أنواع منضوية في داخلها هي أطوار ساهمت في تشكيل قالبها العابر ومنها السكيتش(sketch) كترسيمات تخطيطية تُظهر أبعاد الواقع والشخصية من عدة جهات حيث لا شخصية ولا حدث ولا حوار ولا حبكة يمكنها أن تنجح في محاكاة الواقع المتسم بالانفراط والتيهان.

والسكيتش طور كتابي ألَّف ــ مع أطوار سبقته وبعضها ضارب في القدم كالحكاية الخرافية والشعبية والخبر والسيرة والمقامة ــ أجناسية القصة القصيرة، فغدت ناجزة بعد أن انصهرت تلك الأطوار كلية في قالب القصة القصيرة المحدد سرديا والمتواضع عليه نقديا على مستوى النظرية الأدبية وعلى مستوى تاريخ الأدب.

ولما كانت الكلية بوحدتها العضوية والموضوعية تُغني عن تناول تفاصيل مكوناتها لذا تظل القصة القصيرة هي الجنس الملائم لأية كتابة قصصية تستعيد مكونا معينا من مكونات قالبها.

وتنماز كلية القصة القصيرة في أنها ليست كالرواية وريثة جنس قائم بذاته ذوى هو الملحمة، بل جذورها ضاربة في القدم وبمرور الزمن تخلصت من تبعات الخيالية والتوالي، وارتبطت بالواقع برومانسية ثم أفادت من الصحافة في التخلص من التوالي والرومانسية، وصار القصر سمتها كعمود قصصي أو تقرير صحفي ثم مخططات(سكيتشات) ثم اندمجت كل هذه الأطوار في فن القصة القصيرة كجنس خالص ومختلف وعابر.

وليس هذا بالغريب على جنس مرّ بتاريخ طويل شفاهي وكتابي وشرقي وغربي حتى كأن مقولة تورجنيف (لقد أتينا جميعا من تحت معطف جوجول) هو لسان حال الأجناس الأدبية وهي تعترف أنها نشأت من رحم القصة القصيرة التي تقوم كتابتها على ثلاثة عناصر رئيسة هي (العرض/ النمو / العنصر المسرحي) أما القصر فليس عنصرا، بل الذي يحدد قصر القصة هو القالب بعكس الرواية التي طولها يحدد قالبها.

وهو أمر يخطئ فيه كثيرون فيتصورون أن القصر عنصر في القصة القصيرة، ومن ثم يمكن للقصر أن يكون أقصر فيما يسمونه قصة قصيرة(جدا) توازي ــ برأيهم ــ القصة القصيرة، بينما هما في الحقيقة واحد، لأن القصر ليس كتابيا وإنما هو في التأثير الفني الذي لا يؤثر فيه حجم الكتابة وعدد الكلمات، بل التأثير حاصل حتى إن كانت القصة القصيرة بحجم الرواية «النوفيلا» كما يمكن أن يحصل التأثير والقصة القصيرة قصيدة نثر أو مقالة قصصية أو صورة وصفية أو تقرير ريبورتاج ..الخ. تقول سوزان لوهافر:(يمكن للقصة القصيرة أن تكون أي شيء يقرره الكاتب يمكنها أن تكون أي شيء بدءاً من موت حصان إلى أول علاقة غرامية في حياة فتاة شابة ومن صورة وصفية أدبية sketch جامدة وخالية من الحبكة إلى نظام يتكون من حدث وذروة ويتحرك برشاقة ومن قصيدة نثرية مرسومة أكثر منها مكتوبة إلى نموذج من تقرير مباشر لا مكان فيه للأسلوب أو اللون أو التفصيل ومن المقطوعة التي تمسك كالشرك والتي لا يمكن في واقع الأمر الإمساك بها إلى الحكاية الجادة التي تقاس بها العاطفة والحدث وردة الفعل .. في الحقيقة أن سبب عدم تعريف القصة القصيرة يكمن بصورة واضحة في مطاطيتها غير المحددة) (الاعتراف بالقصة القصيرة، ص15).

«يتبع الخميس المقبل»

عرض مقالات: