اخر الاخبار

 عبثا تحلمين شاعرتي     ما من صباح لليل هذا الوجود

عبثا تسألين لن يكشف السر   ولن تنعمي بفـك القيود

وعلى الرغم من اجناسية القصة القصيرة الناجزة والكلية، فان لأي قاص أن يجرب في بنية هذا القالب بحثا عما يلبي رغبته في التعبير والتصوير. وهو في هذا التجريب ليس مسؤولا عن التجنيس ولا هو من مهامه، بل التجنيس من مهام النقاد والمنظرين السرديين. ولو كان التجنيس من مهام المبدعين أيا كانوا مبتدئين أو محترفين لكنا اليوم في دوامة أجناس لا حصر لها ولا عد، ولما كانت لتقعيدات أرسطو أهمية البتة.

إن التجنيس يبدأ إبداعيا وينتهي نقديا وعلميا وعكسه التجريب الذي هو عملية إبداعية ينتجها المبدع ويتلقاها الناقد وما من نهاية قرائية لعملية تلقي الإبداع السردي كما هو معروف.

والتجريب ـ على مستوى الأدب ـ قائم لا يقف في وجهه تجنيس أو تعريف ولكن الذي يحدد قيمة التجريب هو النقد الذي حكم على نصوص تشيخوف وتورجنيف وموباسان وشيروود اندرسون بالاختمار فكانت المحصلة القصة القصيرة جنسا قائما بذاته نقيا، وصفه اكونور بـ(صفاء القصة القصيرة الخالص) وخالصيته هي التي تجعل المستقبل له من خلال اجناسية قالبه التي معها تكون القصة القصيرة صاهرة وهاضمة وضامة ومجسرة ومن ثم عابرة تجمع المختلفات مع انها مكتفية ومكتملة بحديتها التي هي كحدية السونيت وبتنوعها الذي يشبه تنوع الحياة وتعقدها. ولقد تجلت هذه الطبيعة المتقلبة والهيأة السائلة منذ تشيخوف وغوغول وموباسان وادجار الن بو وهوثرون.

وآفاق التجريب لا حصر لها وحدوده مفتوحة بلا نهائية، أما التجنيس فآفاقه محددة فكريا ومحسوبة تاريخيا. وإذا كانت سمة التجريب التجديد بكل معانيه التطويرية، فان سمة التجنيس التحديد بكل دلالاته الحدية والقطعية والمعيارية. ومن ثم يكون القاص حرا في تجريبه لكن الناقد مقيد في عمله بما ترسخ من مفاهيم وما يشتغل عليه من نظريات، تعطي لنقده الموضوعية والدقة العلمية.

ولقد عُرف عن القاص محمد خضير ومنذ بواكير قصصه أنه قاص تجريبي، وغايته جعل القصة القصيرة معبرة بقوة عن عالم معقد بحيوات مسحوقة، ولطالما كانت الواقعية هي وسيلته الموضوعية في هذا التجريب فكتب في مختلف صورها النقدية والجديدة والسحرية والفنتازية والتعبيرية.

وعلى الرغم مما أبدعه ونجح فيه في هذا المجال، فانه ما زال يرى حاجة إلى مزيد من التجريب، وقد توضح هذا الهاجس في قصصه التي كتبها خلال الانتفاضة التشرينية 2019 و2020 وما تلاها من وباء كورونا وتداعيات نهاية الانتفاضة. ومن ثم أفضى هذا كله إلى تجريب السكيتش الذي لا يؤاخذ فيه الكاتب على القطع والوصل كما لا يؤاخذ على حشر صوته مع صوت السارد . وغايته ليست تقويض اجناسية القصة القصيرة أو ابتداع جنس جديد أو اختبار صلاحية القالب القصير ـ وهو ما يعرفه القاص محمد خضير أكثر من غيره ــ وإنما هو واقعية عالم معقد وميؤوس منه، رآه محمد خضير بعينين سرديتين انبأتاه بما هو مفجع وكارثي.

هذا التنبؤ هو ما فرض على محمد خضير استعادة كتابة السكيتش في قصة مترو 1958 كمكون من مكونات قالبها القصير. ولقد جرّب القاص قبل ذلك كتابة السكيتش في قصص( صبي الكتاب) و( المتسوّلة والسائق الكُردي) و(الخط المنفرد) وفيها وصل القطار بحمولة الموت التي نقلها إلى آخر محطة صحراوية. لتستكمل قصة المترو 1958 كرنفالية هذا الموت الذي جاء مع توزيع صحيفة الاتحاد الممنوعة فكان الواقع المحاكى موشوما بالانتحار والتيهان حيث لا عودة ولا نهاية، بل دوامة من ذكريات وتنافر حيوات وأمكنة افعوانية مقطورة. وقصد القاص من تجريب السكيتش في كتابة القصة القصيرة هو صناعة( نصوص مضغوطة تحت ارتياب النظرة التاريخية المتعالية). (من مقال (مشتغِلون تحت النظر(  محمد خضير 15/ 1/ 2022)

وتذكرنا هذه الاستعادة في كتابة السكيتش بمحاولات كتّاب أمريكان أرادوا أن يعطوا للقصة القصيرة الأمريكية خصوصية تشابه خصوصية الأمريكي الذي يعيش على أرض لا هي بالأمريكية ولا الأوربية. ومنهم سالنجر الأكثر بحثا عن هذه الخصوصية في قصصه القصيرة فجرب فيها السكيتش كصورة وصفية على طريقة هوثرون في كتابة(حكايات تروى مرتين) 1842 مرتدا بالقصة إلى كهوف وسراديب الخرافات والترانيم والتعاويذ.

وإذا كان الرهان في نجاح القصة القصيرة متحققا في أنها تقرأ ولا تنسى، فان تجريب السكيتش في كتابة القصة القصيرة هو تعبير عن رغبة القاص في الهرب من القصة القصيرة بالقصة القصيرة نفسها، يقول اكونور: ( من اشد الأشياء إيلاما فيما يتعلق بالقصة القصيرة ذلك الحرص من جانب أحسن كتّابها على الهروب منها. إنها فن متوحد وهم أيضا متوحدون) (الصوت المنفرد، ص153 ) وما يميز تجريب السكتيش في قصص محمد خضير القصيرة ما يأتي:

1) الخطابية الذي فيها يكون المؤلف والقارئ على درجة واحدة في التأمل.

2) أن السارد حكاء يستعيد خصائص القص الشفاهية بالاستطراد والتوالي والقطع والوصل.

3 ) اللا معقولية في توظيف السرد غير الواقعي.

4 ) ميلودرامية تعود بالقصة القصيرة إلى الشعبية والخيالية.

5 ) التركيز على أشياء ذات نطاق صغير ومبتسر بقصد رفع التأثير الفني إلى أقصاه.

وهذه الرغبة في الهروب من القصة القصيرة نلمسها أيضا عند جويس ود. لورنس وهمنغواي الذين أدركوا سطوة قالبها عليهم أي دكتاتوريتها التي لا تدع كاتبها البارع يتحرر منها وفي الآن نفسه تمنحه ممكنات التحرر التي تشعره أكثر بعدم القدرة على مقاومتها بل والتقيد بها كما في تجريب كتابة السكيتش مثلا.

إن قبضة القصة القصيرة وضغطها الداخلي ليسا مجرد ثرثرة أو عمل كاريكاتوري، بل هي خصوصية القالب الاجناسي العابر الذي يعطيها مطاطية ويمنحها سيولة انزلاقية. وهو أمر  ليس بالجديد، فالقصة القصيرة( هي ما يملكه كل شخص ولهذا فهي حديثة دائما وقديمة دائما ولا يمكن كبح جماحها) الاعتراف بالقصة القصيرة، ص16 . ومهما حاولنا إلقاء الرماد على نار هذا العبور الاجناسي، زاد لهب العبور جذوة فيضم مزيدا كي يعبر عليه، وبما يجعل للقصة القصيرة الأولوية والصدارة مستقبلا. ومهما تطاول الزمان على القصة القصيرة، فلن تفقد سحر اجناسيتها العابرة وسيظل التجريب هو البرهان على دوامية هذا العبور التي هي نفسها دوامية الأمل في تغيير الحياة وتجديدها.  

حاشية تعريفية لا بد منها:

بدأت كتابة السكيتش في القرن الثامن عشر ولم تكن آنذاك مصنفة على أنها سردية أو شعرية، وأول من استعمل اسم السكيتش الشاعرة والقاصة والسياسية الأمريكية السوداء فرانسيس هاربر( 1845ـ1911 ) التي قدمت عام 1872 سكيتشات تخطيطية للحياة الجنوبية الأمريكية ثم نشرت عام 1894 مجموعتها( قصائد نثر وستكشات) وفيها عبرت عن ما يواجهه الملونون الأمريكان من عبودية واضطهاد وأشهر قصائدها في هذا الصدد (أوراق الغابات) و(إثيوبيا ) والغريب ان ديوانها ضاع والأغرب أننا لا نجد لصوتها المناهض للعبودية والدفاع عن حقوق المرأة والمساواة ومحاربة التطرف والعنصرية أثرا في الأدبيات النسوية الغربية، بل إن الويكيبديا تخلو من التعريف باسمها.

ولفيتزجيرالد مجموعة بعنوان( ستكشات كاليفورنيا) نشرها عام 1881 وهي من نوع القصص المتوهجة glowing narrative التي تجمع الرومانسية بالخيال وبنماذج بشرية توفر للشبيبة الترفيه والتوجيه الأخلاقي وتحفزهم على النمو العقلي والتربية وتذوق الأدب، ومن قصصه( dick الحفارون ومنزل كاليفورنيا والمجنون )

ولمارك توين( 1835ـ 1910) مجموعة بعنوان( سكتيشات جديدة قديمة sketches old and new ) طبعت لأول مرة من قبل شركة الطباعة الأمريكية بشكاغو عام 1882 وأعادت دار دوفر ثرفت نشرها عام 2017 وتتضمن المجموعة تسع قصص قصيرة وهي تشابه قصص الحب الروسية في العصور الوسطى وتوظف فيها الجنيات ومنها قصة ساعتي وهي قصيرة تعليمية كتبت عام 1870 ومع كل فقرة من فقرات القصة مخططات، وأشهر قصة فيها هي(الضفدع القافز الشهير لكالفاريس ) ولمارك توين ستكشات أخرى امتازت بروح الدعابة منها (ضفدع سيء السمعة والحلاقون وصحافة في تيسيبي والفيل الأبيض المسروق وكيف تحكي قصة) وتصاحب كل قصة من هذه القصص رسومات تخطيطية.

عرض مقالات: