اخر الاخبار

المظهر الثالث:

وتهيمن عليه الصفة العاطفية من خلال الثنائية الضدية (النشوة/ الحزن) بالرغم من الفارق السطحي ما بين العاطفتين. ومع هذا المظهر سنعود إلى بداية هذه القراءة، وإلى هذه الإشارة التي يدخلها الشاعر في قصيدته، والتي تكشف عن حالة من التماهي ما بين شخصيتي المتكلم والمخاطب بما يحول القصيدة إلى مونولوج داخلي للأنا المتشظية، أو الذات الباحثة في أعماقها عن آخر َ تحاوره، وتفرض هيمنتها عليه. إذ أن الطرف الثاني من هذه الثنائية يحيل إلى الهوية المكانية للشاعر معبراً عنها ب (الحزن الفراتي)، وهي هوية راسخة في قصائد الشاعر أو في مداخلاته ونصوصه الموازية. وفي حين جاء الإستهلال بأداة نداء مخصوصة لمنادى بعيد (أيها) أدنت بقية القصيدة المنادى بضع خطوات ليكون أقرب إلى صوت القصيدة من خلال ضمير المخاطب القريب (أنتَ). هذه المسافة مكّنت الشاعر وهو يستعرض جردة حسابه من تقديم ثنائيات قد تبدو في ظاهرها من أصول بعيدة عن الترابط من حيث المعنى السطحي، لكنها في عمقها الدلالي تُنشيء أضداداً كفيلة ببناء ثنائيات ذات مغزى عميق كما في:

- (الصحراء/ الزورق) في (أنت لا يمكن أن تجتاز صحراء بزورق) وهذا السطر الشعري يتناص مع بيت في الزهد لأبي العتاهية (5) نُسب خطاً لأبي نواس (6):

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها    إنّ السفينة لا تجري على اليبس

- (البحر/ العكّاز) في (وتجوز البحر بالعكّاز) حيث تحيل أداة العطف (ألواو) التي تتقدم الفعل إلى عبارة (أنتَ لا يمكن أن...) في السطر السابق.

- (ثقيل الصخر/ طوق نجاة) في (فاتخذ غير ثقيل الصخر طوقاً لنجاة)

- (الصخر/ الموج) في (كلّ صخر يتحدى الموجَ يغرق) وهذه الثنائية يمكن أن تتفرّع منها ثنائية أخرى، ففي مقابل الفعل (يغرق) يمكن أن يكون فعل الضد المفترض (يطفو) قريناً نوعياً ملازماً ل (ألصخر) لتكون الثنائية الأخرى المقابلة ثنائية فعلية طرفيها هما فعلي (يطفو/ يغرق).

تلك النماذج محاولات لفتح الحدود النمطية للدلالات أو بالأحرى لتهشيمها من أجل تقبّل معاني أعمق وأشمل من الصيغ الموروثة بما يمكنها من التداخل مع بعضها في ثنائيات مبتكرة تُفارق الثنائيات القاعدية المتواترة عرفياً تقوم على علاقات تلازمية افتراضية تبنيها الأنساق النصية الداخلية من خلال إعادة تركيب العناصر المرجعية الخارجية. وبنفس الآلية التهشيمية للثنائيات القاعدية لا نعدم أن نجد ثنائيات متناغمة أو مصاحبات أو متلازمات لفظية هي بدورها تتموضع خارج محددات الدلالات القاموسية مثل (ماء سراب/ قطرة في دورق) في:

(كلّ ما في الكون من ماء سراب

لن يساوي قطرة في قعر دورق)

ولو اطّرحنا الضدية المجتزأة بالمفهوم الذي وقفنا على صور منه من خلال تفكيك النص إلى وحداته الصغرى، والتفتنا إلى القصيدة ككتلة متحققة في منظومة خطابية متراصة واحدة، لتمكنا عندئذ من تشخيص نمط من التضاد ما بين اتجاهين حركيين لشخصيتي المتكلم والمخاطب، على افتراض أنهما شخصيتين منفصلتين ضمن منظومة حوارية ناقصة (من طرف واحد)، فالإتجاه الأول يمضي باتجاه الأمام يمثله المخاطب، بينما يمثل المتكلم الإتجاه الضد بحركة إلى الوراء، أو في تقدير آخر الوقوف في المكان. ويمكن تفكيك هاتين الحركتين المتضادتين:

- فالطرف الأول يمثله الفعل (يجتاز) وهو افتراض ضمني أملاه تأويل نهيه أو إيقافه من قبل الطرف الثاني عن محاولة الإجتياز بقطع عدم الإمكانية (لا يمكن أن تجتاز) في (أنت لا يمكن أن تجتاز صحراءَ بزورق)

- والطرف الأول تمثله جملة (يجوز البحر)، وهو كسابقه افتراض ضمني أملاه تأويل نهيه من قبل الطرف الثاني مضمناً معنى المنع أو الإيقاف أو النهي عبر أداة العطف (الواو) التي تحيل إلى ما سبق من عدم الإمكانية، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في (... وتجوز البحرَ بالعُكّاز).

- والطرف الثاني يقدم للأول حلاً لاختيار غير دمع الندم، وهذا يعني ضمناً أن الطرف الأول قد وضع في حسبانه سلوك الخيار الضد، أي اختيار دمع الندم (فاخترْ غيرَ دمع الندم المُرّ على ثوب تمزّق).

- والطرف الثاني يبسط أمام الأول تبعات تحدي الموج، مما يعني ضمناً أن الطرف الأول كان قد اختار سلوك هذا الخيار إن لم يسلكه بالفعل (كلّ صخر يتحدى الموج يغرق).

وهكذا يمكن الاسترسال في تقصي واستخلاص الثنائيات الضدية من نص يحاول إخفاءها.

وكما في القصيدة السابقة لا تقتصر المعاني الضدية في قصيدة (كلنا تشرين) على الثنائيات النمطية مثل (النور/ الظلمة) أو (اليقظة/ السبات) بل يجتمع الطرفان النمطيان ومن ثمّ ينفتحان على ظلال معانيهما من خلال ما يرسمانه من الصور الشعرية كما في:

(وشاهروا النور على الظلمة

والورد على الرصاصة العمياء والسكين)

إذ أن المعنى المرتبط بمفردة الورد يمكن أن يتجاوز دلالته المعجمية إلى دلالته الرمزية في ضوء اقترانه بالرصاصة العمياء والسكين، كما أن هذا الإقتران يؤهله من جهة أخرى لكي يتموضع بموضع الضد مع كل واحدة منهما أي: (الورد/ الرصاصة العمياء) و (الورد/ ألسكين). وكما للطرف الأول فإن للطرفين الثانيين من كلا الثنائيتين معنى يتجاوز المعنى القاموسي إلى دلالتيهما الرمزيتين، وهما دلالتان واسعتان تُغطيان أفقاً واسعاً من معاني القسوة والسلب.

من جهة أخرى تنفتح الثنائيتان من طرفيهما لتستوعب أفق القصيدة بكامله، فالدلالات المفتوحة للنور تستوعب الإفتتاحية الخماسية للمفردات المتناغمة مع بعضها (ألنهر/ النخيل/ الصخر/ الندى/ ألطين) والتي قد توهم باستقلال بنيتها التركيبية وتكاملها الإيقاعي عن الثنائية الضدية، بالرغم من أداة العطف (ألواو). ولكن هذا الإيهام لا يصمد أمام هيمنة الطرف الأول من الثنائية، أي (النور) الذي استوعب تلك الإفتتاحية، وأدخلها ضمن المعنى الخفي لمعجمه المفتوح، بينما يتسع الطرف الثاني المزدوج من الثنائية الضدية، أي (الرصاصة العمياء والسكين) ليستوعب دلالات ما سيتلوه، أي (موقظو الأمان). وقد تشهد القراءة بعض الإنقطاعات المخادعة لامتدادات هذه الثنائية، لكنها انقطاعات تمهّد للبحث عن وسائل اتصال صورية تمدّ أواصر مع الخطوط المقطوعة للثنائية الضدية. وهذا الإتصال قد يأتي من مجال دلالي آخر ليست له علاقة مباشرة بطرفي الثنائية، بيد أن له ثمة آصرة إيحائية معهما، إذ سيتراصف الظبي والغزال مع الطرف الأول، في حين يتراصف الذئب والتنين مع الطرف الثاني، ولسنا بحاجة لتفصيل الفارق ما بين المجموعتين الحيوانيتين، وما يعكسه ذلك الفارق من دلالات.

وتقف عبارة (جميعنا تشرين) المكررة كعارضة مفصلية تتوقف عندها احتمالات التوسع الدلالي للطرف الأول من الثنائية، بينما تخصص المسافة التي ستعقبها بالكامل لاستيعاب توسعات الطرف الثاني السلبي ممثلاً بالنفايات والمحاصصين، وتلكما الصفتان المباشرتان والتقريريتان بكل محمولاتها النثرية هما صفتان لمجموعة واحدة تعاني الفصام ما بين الوعد والفعل:

(جميعهم عرقوبُ في الوعد

وفي أفعالهم إبرهة اللعين)

والشاعر في هذا الفصم الحدّي لجأ إلى نمطين من الثنائيات:

ألنمط الأول:

يمكن وصفه بالثنائية المتناغمة، ويمثل طرفيها كل من الشخصيتين التاريخيتين الرمزيتين عرقوب وإبرهة، فالشخصيتان متناغمتان ومتشابهتان في سلبيتيهما بالرغم من اختلافهما في طبيعته، فسلبية الطرف الأول في إخلافه الوعو، بينما سلبية الثاني في عدوانيته، وبغض النظر عن ذلك فالطرفان يتكاملان مع بعضهما في السوء والسلبية.

ألنمط الثاني:

تمثله الثنائية الضدية ما بين (الوعد/ الفعل) أو بمعنى آخر (الوعد/ إخلاف الوعد) وقد جاء المقبوس السابق لتوضيح هذه الثنائية.

هذا، وقد تكررت عبارة (جميعنا تشرين) ثلاث مرات، وفي كل مرة كانت تمهّد لدفع الثنائيات في اتجاه تتوخى من ورائه تحقيق هدف محدد يتباين مع كل تكرار عن التكرارين الآخرين:

- ففي االتكرار الأول مهدت العبارة لطرح ثنائية (النور/ الظلمة) وما تنطوي عليه من مدلولات مفتوحة ومفارقة.

- وفي التكرار الثاني اختصت العبارة بالطرف الثاني السلبي من الثنائية الضدية، وقد فصلنا فيما سبق في تمظهرات هذين التكرارين.

- أما التكرار الثالث والأخير الذي مهد للختام، فقد عادت العبارة لتشكل الثنائية الضدية، ولكن بصيغة إيحائية خصت بها البلد الأمين (أي الطرف الأول من الثنائية) بينما ألمحت من خلال الإرادة:

(نريد أن يعود وادي الرافدين

البلد الأمين)

أقول ألمحت من خلال الإرادة باستعادته كونه ما زال بعرف القصيدة مسلوباً، ومن الطبيعي أن هذا التلميح بالاستلاب يطرح السؤال الضمني عن الجهة التي تستلبه، وهنا تحيلنا العبارة من خلال هذا الإيحاء إلى الطرف الضمني السلبي الثاني من الثنائية الضدية. مع ملاحظة أن الشاعر عمد إلى الإشارة لوطنه بصيغتين، ألأولى (بعدية) وقد أشار إليها بملفوظها الجغرافي (وادي الرافدين)، وهي الصيغة التي صار إليها الوطن بعد تحكّم من وصفهم ب (ألنفايات والمحاصصين) في مقدراته، حيث جُرّد الوطن من خزين إرثه الروحي، ولم يعد سوى وادياً لرافدين على الخارطة الجغرافيه. أما الصيغة الثانية، فهي (قبلية) وقد أشار إليها الشاعر بتسميتها التاريخية (البلد الأمين) وقرنها بإرادة العودة كما سبقت الإشارة، وهي إرادة استعادة الحضارة والوطن والتاريخ معاً.

(1) ألجملة الإسمية – د. علي أبو المكارم – مؤسسة المختار للنشر والتوزيع – ألقاهرة – ألطبعة الأولى – 2007 – ص/ 49

(2) بنية الثنائيات الضدية وصيغها في نصوص تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها – دراسة لسانية تحليلية – د. بدر بن علي العبد القادر – مجلة كلية التربية – جامعة عين شمس – العدد السادس والعشرون (الجزء الرابع – 2020 – ص/ 67

(3) ألبديع في البديع في نقد الشعر – أسامة بن مرشد بن علي بن منقذ حققه وقدم له عبد آ. علي مهنا – دار الكتب العلمية – بيروت – 1987 – ص/ 63

(4) نفسه – ص/ 78

(5) ديوان أبي العتاهية – دار بيروت للطباعة والنشر – 1986 – ص/ 230

(6) ديوان أبي نواس – وضعه ورتبه وشرح ألفاظه محمود كامل فريد – المكتبة التجارية – القاهرة 1945 – ص/ 231

عرض مقالات: