اخر الاخبار

بعد سبع مجاميع شعرية كانت أولها [كلمات ما بعد الموت] عام 1991م وآخرها [أنا أمّ أخيها] عام 2020 أصدرت الشاعرة المبدعة [حسينة بنيان] مجموعة شعرية ثامنة تحت عنوان [بعد شظايا العمر] عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والشعراء والكتاب في العراق والمجموعة تقع في مائة وأربع صفحات وأربعين نصاً شعرياً تنوعت بين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة لنثر.

يشي عنوان المجموعة بإحالة إلى تأويلات شتى مستلة من الواقع العراقي الإشكالي الذي نعيشه يومياً بتفاصيله فأكثر النصوص كتبت في العامين 2020 – 2021. هذه التأويلات لا تتعدى الواقع الذاتي للشاعرة والواقع العام الذي عاشته. فالنصوص تغوصُ بين الذاتي   والموضوعي، الذاتي في النصوص التي تعاملت مع تجاربها الحياتية الشخصية البحتة والموضوعي هي النصوص التي انغمرت بواقعها العراقي الإشكالي. إنّ التمازج بين الذاتي والموضوعي يعدّ واحداً من أهم إشكاليات الشعرية في واقعنا الذي نعيشه وهو انتصار لمدرسة الواقعية تتخذ من الواقع أنموذجاً لعرض ما يعتور حياة المبدع وأثر الواقع به والتماهي معه وصولاً إلى بنائه كواقع ثانٍ متكون من الواقعين معاً، الشاعرة حسينة بنيان وهي الناشطة المدنية والمناضلة التي نشأت منذ صباها على مبادئ العدل والمساواة والحرية واحترام الآخر والسعي لبناء وطن حرّ يرتع بالحرية والسعادة والعدل؛ لابدّ وإن تنعكس كل متغيرات الواقع على نصوصها وذلك بتفكيك النصوص.. إن (بعد شظايا العمر) يوحي بتأويل واحد لا غيره يقول أن هذا الديوان نتاج مراحل من الكفاح والنضال الوطني شهدته الشاعرة.. وطنها ينهب منذ إذ فتحت عينها وهي هنا تؤكد على كشف ذلك بكلمة شظايا المرتبطة بالحروب والفقدان والخراب والتهميش والإلغاء.

نصوص هذه المجموعة ما هي إلا شظايا الأمس القريب والتي تشكل تراتبية مأساوية لجعل حياة الشاعرة وهي تتغنى بالحياة مع أن مأساة الفقد ظاهرة للعيان تراتبية في أكثر النصوص فقد الأخت – فقد الأهل – فقد الأصدقاء – فقد الرفاق – فقد الإيمان التاريخي في الشخصيات المأثرة بتاريخنا العربي الإسلامي ، هذا التأكيد على الفقد يجعل المرء الحقيقي على مفترق الشظايا في واقعنا من خلال الإيمان أن الحياة وسط هذا الخراب العام تكون لذاتها ومحاسنها وديمومتها وألقها من وفهم المعنى الحقيقي لجوهر الفقد فلا عجب أن نجد تاريخ الحلة والعراق المعاصر مبثوثاً في ثنايا النصوص التي اختارتها قصداً في هذه المجموعة ليتحقق مقولة بالأثر هو العنوان المؤثر في النص فلقد كان العنوان مختاراً بعناية ليشكل الضوء الكاشف عن مجمل نصوص الديوان، أن التحكم في علاقة الذاتي بالموضوعي آصرة مهمة في إبراز قيمة العمل الأدبي جوهراً وشعرياً ولهذا فإننا نرى وكمثال على الذاتي الفائض في أعماق روح الشاعرة والذي يتمثل في الشخوص التي تناولتها في كثير من القصائد في الغلاف الأخير والنص المختار الذي تقول الشاعرة فيه :

(دعني معه -مع رافديه – حتى وإن أغرقاني – فما زال ليرى نائماً في رقدته ينهل منها – بين الوادي والنخلة الصارخة – دعني معه – وفقراءه – المضحين – وما أكفانهم جاهرة – من أقرب رصاصة طائشة – إنه وطني – دعني معه).

هذا النص يشكل السيرورة الشعرية لطبيعة نصوصها فالارتباط بين الذاتي فقدان الحبيب – والموضوعي المضحين دوماً – أكفانهم جاهزة – من أقرب رصاصة طائشة – إنه وطني – دعني معه).

شكل النص معادلة حياته بين (هي) الرائية هو (الفقيد) وهم (الشهداء) والحضن الكبير الذي توسدوه (الوطن) وإحكامها المؤلم بطلب البقاء في هذا الحضن الكبير رغم كل حالات الفقد الذاتي والموضوعي، حيث يكشف لنا هذا النص محورين في نصوص المجموعة.

قصائد الهم الذاتي: وهي القصائد المشخصة بالاسم أحياناً وبلا إشارة كثيراً وهذه النصوص استغراق عميق بالألم لكن ألم يشرق بالأمل الذي ستنيره شمس الحرية في عراق الغد؟ تقول (في حكايتك معي) مازجة بين الاتجاه الذاتي والموضوعي في نص وهي حكاية الوطن معها.

(أيتها النحلة المنحنية – أنت والفرات توأمان – فلا تستوحشي المكان – فلقد أحاطك – بمطبات الموج – منذ صعود رياحينك الخضر – فهو الابن وهو البار وأنت – الأم الهائمة – فتعالي واحلمي – بسويعاتك القادمة).

ارتباط بين الوطن مثلا بالأقربين والوطن مثلاً بالنخلة والنهر والإنبعاث إلى مستقبل وضاء.

وفي (عندما تخونك السقوف) تقول (عندما تخونك السقوف – يهتز العمر – ويعترض البياض – والنفس المطمئنة تستقبل التراب – إلى أين – فالخطوات قريبة من ذلك الوادي – والزمن سارق) وهي بلا شك تسبر نحو الواقع المؤلم الذي عارضته حين تغور في يأس فتقول (الزمن سارق – والدروب خاوية – والعودة مغلقة – خلف أديم الأيام – عندما تخونك تلك السقوف) والسقوف في الإحالة الرمزية تعني الغطاء الآمن الذي يحتضن الأبناء وقت الشدة ولكنها كما ظهر للشاعرة سقوف خائفة وهنا في نص آخر تنادي البعيد المفقود فتقول (كليل ماطر – دارت روحي... حولك – لتسقي حلمي – بينك وبين...) فالفقد واللقاء الحالم بالعودة والغربة القاسية تتكئ على الروح الحالمة للقائها تواصلاً مع المفقود   والحبيبة ، وهي دائماً ما تنادي شقيقها الشاعر العالم هاشم بنيان بعد رحيله ليكون نداؤها تأكيداً على عظم الفقد عندها فتقول له:

( أي شقيقي – أسعفني بطيف أحضنه – ورنين حنان) إن التجاءها إلى صوت المفقود لإنقاذ الفاقد محاولة لاسترجاع الزمن المسروق منها بقوة الظلم والتعسف والكبرياء والجوفاء للآخرين.

وفي نص آخر تعترف الشاعرة للآخر القريب من روحها فتقول له وهو المهاجر (من أين أتيت؟ وأنت الفارع الأول لذلك الطين) فبرجوعها إلى محنة الطين الأول تتجلى المحنة الكبرى في العراق حين تهجر أبناؤه فتكون الأرض العراقية خلو من خطاهم تنبت من تحتها الفتن والنماء والأمل والفجر السعيد.

هناك نصوص كثيرة في هذا المحور الذاتي الذي تشير علانية أو إشارياً إلى الذات ومتعلقاتها الشخصية والروحية والثقافية تدور في محور الحياة الخاصة بالشاعرة ولو انتقلنا إلى المحور الذاتي فإننا نجد كماً كبيراً من نصوص رائعات تتماهى فيها الذاتي بالموضوعي والموضوعي هنا رموز حياتية من قبل نوال السعداوي – لميعة عباس عمارة – فاطمة الزهراء –عبد الرضا عوض – شاميران مروكل – أو تاريخية مثل الإمام علي – الإمام الحسين – هشام الهاشمي – سلام محمد الزهري ففي نصوص هذا المحور تتجلى آلية الارتباط الفني بين رؤية الذاتي وبين رؤية الموضوعي. الشاعرة حسينة عباس بنيان في خوضها الشجاع لمواضيع حساسة تتعلق ببناء الإنسان وبتوقه للاندماج مع الآخرين تعمل على صنع الخلاص وبناء حياة أخرى وواقع ثانٍ يعيش فيه الإنسان حراً بصيراً.

                 إن آلام الذات المنبثقة من واقع مؤلم وفقدان جسيم عاشته المبدعة والتقائها بالهم الذاتي العام للوطن تؤكدان صوت الشاعرة في منهجه الإبداعي صوت الحق صوت الحق والمروءة والشرف والنضال وسيبقى هذا الصوت صادحاً في كل حين.

هذه النصوص الجميلة كتبت على وفق آلية السهل الممتنع الجميلة التي تسعى دائماً إلى إيصال الرؤية وفقاً لمتطلبات الواقع دون مماطلة في القول أو تمحَّل في الرؤية بلغة سهلة مأنوسة وهذا يعني أولاً وأخيراً أن الشاعرة كانت تنطلق أولاً من فكرة واضحة مضيئة في ذهنها لتشكل نصوصها وفقاً لذلك وهي بذلك كانت وفية لنصوصها ولأبطالها وأصدقائها وأقاربها الذين وقفوا معها من أجل بناء الوطن سعيداً والشعب حراً يتمتع بالعدالة والحق والاطمئنان، فسلاماً لها ولمعانيها السامية والجميلة كلها.

عرض مقالات: