اخر الاخبار

لا ليل يكفينا لنحلمَ مرّتين

“ محمود درويش”

رحتُ أنتظرهما؛ المنتجَ الذي سيشتري روايتي، والسيناريست الذي سيشتغلُ عليها كما قيل لي، ويناقشني في بعض أحداثها قبل أن نوقعَ العقدَ، وذلك في مقهى ومطعم “ بوابة الحلم” في الحيِّ القديمِ. كان الموعدُ في السّاعة السّادسة. حرصتُ أن أصل قبل نصف ساعة تقريباً. اتخذتُ ركناً وجلستُ أنتظر. أشغلتُ نفسي بجوالي وبشربِ الشاي. مرَّ الوقتُ بطيئاً. تلفتُّ حولي مراراً، أراقبُ المدخلَ كلَّ وقتٍ ، كي أقبض على مجيئهما. صارت السّاعة السادسة والرّبع ، ولا من أحد. لا أعرف كيف نظرتُ إلى ساعةٍ معلقة في صدر المكان؟! ذُهلت حين وجدتها تشيرُ إلى الخامسة والرّبع. سألتُ النادل على الفور : كم الوقت؟ دفع باستغرابه في وجهي وأشار بيده إلى الساعة الكبيرة، قلتُ متداركاً حَرَجي: لكنها الخامسة وليست السادسة. ابتسم خلسة وقال: اليوم اُعتمد التوقيت الصيفي. ثم ترك ابتسامته تتسعُ ومضى. كان المكانُ قد فرغ من روّاده بعد تناولهم الغداء، باستثناء البعض الذين بقوا مستمتعين بالجو اللطيف، والخضرة المتدلية، وسقسقة ماء النافورة الزّرقاء. ثمّة طاولة قبالتي، انفردَ فيها رجلٌ في الأربعين من عمره، بعد دقائق انضمَّ إليه آخر يوازيه عمراً، بل ويشبهه في الكثير من الصفات. سلّم عليه بصوتٍ لم أسمعه، لكن أعتقد أنه رمى التحية لأنَّ الرّجل الأول حرّك رأسه مرتين. جلسَ قبالة صديقه، رحتُ أرقبهما خاصة وأنَّ أمامي ثلاثة أرباع الساعة حتى يأتي ضيفاي . اشتعلَ فضولي حين شعرتُ بالوقت يمضي ولم يتحدثا كلمة واحدة؛ كلٌّ منهما راح يفكرُ بعمقٍ ويشربُ قهوته بصمتٍ وببطء. واكبتهما عن كثب. كانت قسماتهما جامدة، محايدة في البدء، ثم بدأتْ بالانفعال الخفيف. فكرتُ بيني وبين نفسي: ما الذي يدورُ في رأسِ كلِّ واحد؟ راقت لي الفكرة التي توهّجت في ذهني ، سأضربُ عصفورين بحجرٍ واحد؛ أولاً سيمرُّ الوقتُ دون أن أشعر بثقله وسماجته، وثانياً سأتخيلُ أحداثاً لهاتين الشخصيتين قد تنفع لاحقاً لأنْ تكون رواية. ورحتُ أخمنُ بماذا يفكران معتمداً على لغةِ الجسد بالدرجة الأولى، وعلى خيالي تالياً. الرّجل الأول يبدو مثقلاً بالهموم، هذا ليس اكتشافاً خطيراً وسابقة لي، ولن أقفز مثل أرخميدس وأقول : وجدتها. وإنما الهموم والمتاعب هي حال كلِّ فرد يعيش في وطن أنهكته الحرب ، بينما دفعتنا آثارها إلى وضع اقتصادي مزرٍ، جعلنا نحاكي أنفسنا كالمجانين، أو نصمتَ حيال كلِّ شيء كالمصدومين أو البلهاء. أطنُّ أنَّ هموم الرّجلِ تزداد، وذلك لانحناء كتفيه أكثر مما كان عليه قبل دقائق، وعيناه السارحتان في اللاشيء، سأتخيلُ ما يفكرُ به، وما يقولُ لنفسه:” اليوم أيضاً هربتُ من الأولاد، الحياة تزداد سوءاً، والحبلُ يضيقُ حولَ العنق، كنتُ سابقاً أصطحبهم إلى السوق كلَّ جمعة، أو وقتما ينال أحدهم علامة عالية في أحد المواد الدراسية، أشتري لهم ما يطلبون، فيفرحون ويرقصون، أما الآن وهذا الغلاء، وضيق اليد، صرتُ أهربُ.. أجيء من عملي، أتناولُ غدائي وأنا عابس، أدّعي القيلولة حتى يهرعون إلى واجباتهم المدرسية. سمعت الصغير يقول لأخيه: منذ متى وبابا نائم ؟ صار لي شهر لم أر وجهه ؟! أسمع ذلك فيزداد قهري، أتلفع بالانكسار وأنسلُّ بحذرٍ من البيت من دون أن أنظر في عينيّ زوجتي، أو أجعل أحداً يراني، كي لا يلفت نظر البقية، فآخذهم معي كما كنتُ أفعل سابقاً. أعترفُ أنني أهربُ كجرذٍ منهم، أشعرُ بالتقصير يمزّقني. منذ وقتٍ وأنا أبحثُ عن عملٍ إضافي ولا أجد. رحتُ أتابع حركاتِ جسدِه التي تنبئ عن إعصارِ غضبٍ أشمُّ رائحة انفلاته في داخله، بينما يحاولُ قمعه بالضغط على أسنانه، أما الرّجل الآخر فكان ينظرُ عالياً إلى جهة اليسار وكأنه يتذكر شيئاً مؤلماً! أظنه يقول :” أيُّ وجع هذا؟! منذ شهرين غادرا البلد بطريقة غيرِ شرعية كما فعل الكثيرون ممن رغبوا في ملاذٍ آمن، لم أسمع خبراً عن ولديَّ ، تواصلت مع أصدقاء وأقارب في تركيا حيث كانت محطتهما الأولى ، قيل : عبرا البحرَ بقاربٍ صغيرٍ مع العشرات. وما زلتُ أنتظرُ أن يصلا. كنتُ مخطئاً حين تركتهما يسافران وحدهما، كان عليَّ أن أمضي معهما أفضل من هذا الاحتراق. ثم راحت قبضته تضربُ على الطاولة، بعدها نظرَ إلى الأسفل يتحدّث مع نفسه بأسى . رأيتُ دموعه تنسكبُ بحرارة وذقنه ترتجفُ. صمتُّ في مكاني، ساءلتُ نفسي:” ترى هل أنا محقٌّ باجتراح الأحداث حولهما؟ هل حالتهما تشي بما فكرتُ؟ وتذكرتُ أنني على موعد، فانتبهتُ إلى الوقت الذي سرقني، العقربُ الصغيرُ يشيرُ إلى السّادسة، والكبير إلى الثانية، قلت لنفسي: سيأتيان، وسأوقع العقد، وأستلمُ المبلغ المتفق عليه، لا ضرر من تغيير بعض الأحداث لصالح المادة الفلمية، المهم أنَّ هذه الرّواية ستفتح لي الطريق؛ طريقاً واسعاً وأخضرَ، سأبدأ بكتابة العشرات من القصص والرّوايات، وسأطعنُ الفقرَ في خاصرته، وأسبقُني إلى الحياة التي دمّرتها الحربُ . ياالله! لشدَّ ما سيكون مشهد اغتسالي من همومي وأوجاعي جميلاً! سأدفعُ أجرة الغرفة لسنةٍ كاملة، أقذفُ المبلغ في وجه أبي توفيق الجشع وأقول له: خذْ اشبعْ، يكفي اذلالك لي كلَّ رأس شهر... أسكتُ قليلاً.. لا لن أفعل ذلك، بل سأعطيه ما له في ذمتي، وأقبّل رأسه وأترك المكان برمته، لأستأجر في شارعِ بغداد شقة تليقُ بكاتبٍ مثلي، وسأشتري سريراً خشبياً يعلوه مصباح كهربائي، وطاولة؛ يكفي تعبتُ من الكتابة وظهري منحنٍ وأنا جالس على الكرسي، أو منبطح على الفراش. سأقتني ضوءاً  يشتغل على البطارية إن انطفأت الكهرباء لأتابع الكتابة والقراءة من دون أن ألعن العتمة ألف مرّة في اليوم، أو أبصق أمامي على اعتبار أنَّ مسؤولَ الكهرباء يحدّثني! سأدعو ماريا صديقتي ، بل خطيبتي مع وقت التنفيذ ، لأبتاع لها عطراً وورداً حقيقياً ، وربما أجعلها تنتقي قميصاً وردياً بأزرار صفراءَ لامعة من سوق الحميدية ، سآتي بها إلى هنا لنتناول وجبة عشاء ، ثم نمضي سوياً ، نعدُّ النجوم في ليلنا المقمر. ياااه! ما أجمل أن تتحققَ الأحلام.. وضعتُ كفي على خدي ورحت أحلم كالمراهق، فجأة انتفضتُ كالملسوع، خطفتُ نظرةً إلى الساعة ، لقد تجاوزت السّابعة شعرتُ بقلقٍ: لقد تأخرا ساعة كاملة. أسمعُ دقات قلبي، راحَ ظهري ينحني رويداً رويداً، ما الذي يثقلني؟ صارت السّاعة الثامنة، بل العاشرة. ياإلهي! لقد تجاوزت الواحدة، وأنا أرسلُ بنظراتي إلى باب المقهى كلَّ حين، أمسكتُ بهاتفي واتصلتُ برقمِ المنتجِ الذي بحوزتي، كانَ الرّقم خارجَ الخدمة، ما معنى ذلك؟! شعرتُ بانهدادٍ وقهرٍ وبوقتٍ مرٍّ سرى في دَمي، مسحتُ على ذقني الطويلة التي لم أحلقها منذ أشهر، ثمّة شيءٌ حار يدغدغُ الشعيرات، ارتجفتْ أصابعي حين ساحَ الدّمعُ عليها، أحسستُ بإحراجٍ وأنا أسحبُ منديلاً من العلبة البنية الموضوعة على الطاولة أمامي.نظرتُ إلى الرّجلين، مازالا صامتين، غارقين في عوالمهما، وقفتُ بلا شعورٍ، سحبتُ كرسياً وانضممتُ إليهما.

______________________

*قاصة وروائية سورية، أصدرت 27 مؤلفاً وفازت بجائزة حنا مينه عام 2022 عن روايتها “ الهوتة”.

عرض مقالات: