اخر الاخبار

بعد قليل ستتجمع حمامات آخر النهار فوق بنايات الصفوف الأخيرة,او فوق السلالم و اغصان الاشجار المحيطة بالسور. بعد قليل سيعود الهدوء الى الحشائش المقصوصة والتربة المبللة .سيغادر الطلبة وهم يحملون الحقائب التي تركوها عند البوابة وقد انقضى العام.يغادرون الواحد تلو الآخر,بصمت,بمسافات متفاوتةالبعد,غير مرئية,سيقان منفرجة,بنطلونات تكسر شمس الفراغ الاخضر الصامت,كأنما تريد اللحاق بعضها ببعض.

غادر الطلبة كل اثنين منهم معا,منذ بداية اليوم,واستمع الى النواح اليائس لآخر الاوقات عند الصباح ,او في الظهيرة او المساء.

من المحتمل انه قد شم رائحة المطر المحرقة اول الصيف تلك الرائحة المنبعثة من ثيابها الوردية الملتصقة,ورأى لون الجدران خلف ساحة حديقة الكلية والتماثيل الساكنة,احنت رأسها الصغير وهمست:

-اردت ان تقول شيئا,ماذا اردت ان تقول؟

-في بعض الاحيان نريد ان نقول شيئا فلانقوله,ونقول شيئا اخر لانريد ان نقوله.

هل حدث ان جلسا معا في الصباح؟

او وقت الظهيرة او في المساء؟هل حدث ان تأملا نفسيهما تحت الشجرة المنفردة والظل الوحيد؟هل تقابلا منذ زمن ,او منذ وقت قصير؟هل جلست الى جواره تتأمل شحوب وجهه تحت الضياء الراكد,او المساء العابر المتخثر,هل نظرت اليه ووجهها ينفرج بابتسامة وتأملته عيناها بتوسل؟هل اختفت تلك الابتسامة سريعا والتصق هو بطرف المقعد الطويل رافعا بصره نحو ناحية اخرى محتميا بالظلال,هل اوشكت ان تقول له بصوت متعثر:

-انت قلت شيئا وانا قلت شيئا,انت نسيت شيئا وانا نسيت شيئا.

سوف تتسرب الساعات بالوحشة,بحركتها التلقائية الهامسة,نصف راكضةونصف نائمة,ساعات سائلة,ساعات كاذبة,ساعات مظلمة تنبض في قلب الصمت مختلطة بايقاع الزمن الموجع,ترى لماذا تتلفت الفتاة الصغيرة وتهمس حين تقول :

-انا آسفة,انها أشياء لاتستحق الذكر.

ربما قال الفتى:

-ماذا كيف ؟

-قلت انها أشياء تافهة,ارجو ان لايضايقك ذلك.

-اجل انها لاتستحق الذكر,ولكن ماهي تلك الأشياء؟

قالت الفتاة:

- لاكنني صريحة معك,لقد اغويتني كثيرا, حتى اذا مات وجهت نحوك لم اجد شيئا, لم تمارس شيئا,واذهلني عجزك,انت ايضا تريدني ان اكون سعيدة لكنني اشعر ان سعادتي تلفظ انفاسها.

اطلقت أهه قصيرة,وخلال بضع ثوان,لمس كفها البضة فحررت يدها من يده,التفت الى الجانب الاخر مبهورا ونظر الى السماء التي فقدت نضارتها قال:

-في البداية كان كل شيء جميلا,البدايات دائما هكذا,مالذي سنفعله الآن ؟

استمع الى خفق اجفانها المائلة للزرقة والتي جف عليها ظل حزن غامض,وتناهى الى قلبه حفيف الريح بين دقائق شعرها الاسود,نظر الى يدها العارية ذات الاصابع الطويلة المندهشة,وانتبه الى ابتعاد الطلبة وانقطاع اصواتهم .عند جدار مطعم النادي شاهد قطة ميتة وقد لفت بورق الجرائد,فبرز جزء من جسدها تحت الجدار.

كانت هي قد ابعدت وجهها ,مرر يده على انفه,فاصغت الى صوت ارهاقه وحيرته,اقتربت منه وقالت كانما تروي حلما بلهجة مقهورة:

-ارجوك لاتتاثر كثيرا,عده شيئا منتهيا.

قال وهو يتفحصها:

-ارجوك انت انك تحرجينني ..

-ان ذلك سيىء انا اعرف.

-حينما انظر الى نفسي اجدني مخطئا كل الخطأ,انا مخطئ كبير,ان وجودي منذ بدايته حتى نهايته هكذا .

صمت برهة ثم اراد ان يتكلم من جديد,حانت منه التفاتة الى بطنها المسترخية تحت الضوء,حياة متبددة,عنفوان,اختلاط احلام ,كوابيس,رؤى قدرية,ساعات من عواصف ضوئية جبارة,هذا المساء وكل مساء, اقتربا, افترقا, لكنها قالت:

-لم اكن اقصد ذلك ,سامحني..

-انها احزان متشابهة,انه السر الكامن في الاحزان.

من الطبيعي انها قالت :

-لو فعلت ذلك من قبل ,لو فعلت ذلك منذ زمن ,الا انه ليس بوسعي تحمله.

بدأت تنشط ريح خفيفة فاحدثت بعض الوريقات الصغيرة المتساقطة من دفاتر آخر الطلبة صوتا على عشب الحديقة قرب المصطبة التي يجلسان عليها,حانت منه التفاتة الى القطة الملفوفة,تنهدت هي فقال وهو ينظر الى الفراغ الملون تحت الشمس:

- هذا الصباح تمشيت في السراي ,كنت ابحث عن وجه افتقدته منذ زمن,صورة قديمة من طفولتي..امرأة غريبة بيضاء,بضفائر ذوات نجوم,كانت معلقة في بيتنا,انا اردت تلك الصورة.

-  امرأة ؟

-زمن بعيد ,ذكريات ثمينة, احزان, ما الذي يضايقك في ذلك؟

-الليلة الماضية شاهدت حلما,احلم هذه الايام احلاما كثيرة.

-احلام كثيرة,اين ؟

-في نومي.

- لماذا ؟

- ماذا تقصد؟

-متى ؟

-أثناء النوم في كل ليلة.

-لم لا ..؟

-قلت انك تحلمين دائما...

-انا لم اقل دائما,انا اقول انني احلم بعض الاحيان.

نظر الى فرجة فمها المندهشة ,وضاع في انعكاسة ضوء النهار حول خصلات شعرها المتطاير, قالت :

-ماذا تريد ,حسبت نفسي اعرفك,القيت نفسي عندك,لكنك لاتريد ان تعرف حتى نفسك.

-انني أتأمل أشياء لاتحدث الا في مخيلتي ,أشياء لن تتحقق ابدا, ان آمالي تحطمني .

-ارجوك ..

-ليست بي رغبة الى شيء,حينما اتوجه الى اي مكان لااعرف غالبا اين وجهتي,والشوارع التي اسير فيها لااعرف الى اين تاخذني ,اريد ان اقترب من نفسي اكثر ,واين اجد ذلك ,ليست لدي وسيلة اخرى سوى ان انتحر او اموت او اتشرد ,انني بعيد عن نفسي,بعيد جدا,كم هو مؤلم ان لاارى كما ينبغي ولااعرف شيئا كما اريد.

(الان,هل عاد الهدوء الى. الحشائش الخضراء المجذوذة والثيل المبتل؟الآن هل تركت الحقائق واختفت الابتسامات خلف الدموع, بعد نهاية العام ,او بعد نهاية كل عام ؟)

لبرهة قصيرة,تكسر الضوء المنحرف من نهايات الاشجار وتساقط حول مآقيها الملتمعة,احست هي باختلاجة خديه وهو يحني رأسه تحت ضوء شديد الخضرة.

تناثرت اوراق كان لها دوي اشياء محطمة, وقد تبخر منها النسغ, تابعت عيناه تلك الوريقات المرتعدة مع هبوب الريح,وفجأة شعر بنفسه يمو ت بشكل مخيف ,ترى هل سمعها تقول ؟ :

-ربما اراك في السنة القادمة,عليك ان تبذل مجهودا كبيرا من اجل استرداد نفسك ..

قال: لاادري , لااعتقد .

لكنها نهضت وقد اخرجت من حقيبة يدها الصغيرة وهي تمشي متمهلة باتجاه مكان الحقائب,نظارة سوداء,كأنما تدفن احلامها تحت أضواء اخر اليوم الشاحبة ..

جلس هو في مكانه,ينظر الى نفسه, ويتامل ركبتيه بحنان, وبلهفة تطلع الى السلالم الصامتة وبنايات الدرس التي تشرف على الحديقة من جهة السور ,احس بجرح غامض في قلبه لايعرف مصدره,ونزف لايعرف متى سيتوقف او يكف ,وقد اخذت الريح تصفر في اذنيه ,برغم ان كل شيء كان ساكنا, وكانت القطة هناك ,ملفوفة قرب الجدار .

ــــــــــــــــــــــــ

*قاص عراقي من جيل السبعينات يقيم في أمريكا.

عرض مقالات: