اخر الاخبار

ليس البحث في مسؤولية الكتابة الأدبية أو لا مسؤوليتها بالأمر الجديد، نظراً لكثرة المتغيرات التي ألقت بأية مساءلة من هذا النوع في باب الطوباوية المبدئية ومثاليات الضمير العام كما أن من غير المستغرب أن يحذر جان بول سارتر الأدباء الملتزمين من التمادي في الالتزام قائلا:(إنني أُذكِّر بأن الالتزام في الأدب الملتزم ينبغي ألا ينسينا الأدب في أي حال من الاحوال، وبأن شاغلنا يجب أن يكون خدمة الأدب بزرقه بدم جديد وفي الوقت نفسه خدمة الجماعة بمحاولة منحها الأدب الذي يلائمها)(الادب الملتزم، ص26). ولعل واحدة من المتغيرات المهمة التي ساهمت في التقليل من هيمنة فكرة الالتزام الأدبي على النقاد هي البنيوية التي من محاسنها أنها أنست الكثيرين وجود المؤلف، وقللت من أهمية البحث عما يريد قوله، ووجهت الاهتمام نحو البحث عن جماليات ما يقوله النص نفسه عبر مستوياته اللسانية وأنساقه الأسلوبية والتداولية. وبمجيء أدبيات ما بعد الحداثة ضَعُفت فكرة الالتزام أكثر وازداد تهشيم الثوابت القارة، وصار التجريب موجهاً صوب كل ما هو مهمش. ولم يعد الأديب مفكرا في ما ينتجه، بل صار حرا في ما يجرِّبه من شعر وسرد مغامراً ومرتجلاً، وهكذا أخذ زمن التأليف المعقد والصارم بالانتهاء. والحرية والتلقائية هما اللتان بهما ارتبط نجاح كثيرين من الكتّاب بدءاً من سرفانتس ومرورا بديستويفسكي ورابليه وكونديرا الذي لم يسمح لأي التزام ثوري أو ضمير واخز بالذنب أن يتدخل في كتاباته. وليس مثل كافكا كاتباً أضرته فكرة الالتزام الأدبي، فقرئت رواياته بمنهجيات تبحث عنه كمؤلف يظهر في سلوك شخصياته كاتبا يتصرف كمذنب خصوصا في روايته (المحاكمة) وشخصية ك الرئيسة فيها. والتلقائية هي اللاتخطيط، وكلاهما لا يفرطان بالنضال من أجل الكرامة المفقودة كما أنهما لا يدللان على اللاأخلاق والفوضوية، بل هما الرأي المستنير بعيداً عن الادلجة ومخاطر التحجر في عتمة دهاليزها كما أنهما ـــ أي التلقائية واللاتخطيط ـــ يعنيان التحرر التام من ركود الثوابت وطوباويات أنساقها التي لا تُنتج سوى المثال الصنم والنموذج الأوحد والأحلام الوردية بالتطهر الروحي والبراءة الكاملة والثورية الصارمة. وهذه الأخيرة ارتبطت في كتابات بعض أدبائنا بفكرة تغيير الواقع عبر الكفاح الجماهيري في محاكمة الطغاة والجناة ومقاومة الاستبداد والاضطهاد ومواجهة التراجع والانتكاس مع المراهنة على المبادئ والقيم برومانسية أو باتكالية ايديولوجية. لا شك في قولنا إن الثورية في الأدب قد تشتمل على هذا كله ولكن الذي لا شك فيه أيضا هو أنّ الثورية تتعدى ما تقدم وتتجاوزه إلى حدود قد لا نتصور أنها مشمولة بهذه المفردة أصلا. فالثورية ــــ منظورا وممارسة ــــــ ليست التزاماً حسب، بل هي أوسع من ذلك بكثير لأنها هي البحث عن الحقيقة، والحقيقة ليست منظوراً ولا ممارسةً. وإذا كانت الثورية هي الطريق لبلوغ الحقيقة، فإن تعدد أشكالها وتنوع صورها أمر منطقي، إذ يمكن للثورية أن تكون مادية وميدانية كشيء نخاطر به ونحن ندعو إليه ونحرّض عليه. وأيا كان هذا الشيء ماديا او معنويا، بسيطا ضئيلا او هائلا عظيما فإنه يظل شيئا نؤمن به ونحمل انفسنا على التضحية من اجله وبما يمنحنا رضى اخلاقيا باننا على طريق الحق وبلوغ الحقيقة. يمكن الثورية أن تكون معنوية وعلمية كشيء نتعلمه ثم نثور على علمنا به كي لا يتوقف تعلمنا، وكي نظل متيقظين إلى أن وعينا بما تعلمناه يدفعنا الى تعلم ومعرفة ما عداه.  ومهما كانت المادية الثورية اجتماعية أو سياسية أو دينية أو تاريخية أو جغرافية، فان ثوريتنا ستتمرأى أمامنا ميدانا عمليا للتباري بالصدق في الانقلاب على واقع الحال والانتفاض عليه. وهو ما يجعلنا تلقائيا على طرق البحث عن الحقيقة بوصفها هي الجمال الذي يضفي على كل جوانب حياتنا المادية ألقا، ويزيدها نقاء وقوة وبما يوصلنا الى الرضى الأخلاقي. ومهما كانت المعنوية الثورية قيمية او معيارية او انطولوجية او منهجية او بيداغوجية، فإن ثوريتنا ستتمرأى أمامنا تمردا وانقلابا وعدم إذعان، محصلته البحث عن الحقيقة الذي به ينبغي أن تتمظهر خطاباتنا وتتبدى في سلوكياتنا وتنعكس على حياتنا ثقة وعزما يوصلنا الى الرضى الاخلاقي أيضا.  وما دامت الثورية بهذا الاتساع والحقيقة بهذا التحديد، فإن التلقائية والتحرر من التخطيط هما سمة الأديب المخلص لثورية أدبه. أما الالتفاف عليها كأن يقارب الثورية صورة ويخالفها جوهرا أو يماثلها تارة ويغايرها أخرى، فسيجعل ثوريته ناقصة شوهاء. وهو ما ينأى عنه الأدباء الذين تتجلى ثوريتهم في بحثهم عن الحقيقة، متجنبين السقوط في فخ الالتزام الأدبي، سياسياً كان هذا الالتزام أم فكرياً. وما قد يلحقه من شعور بالذنب وإحساس بالمراقبة والتحسب ترقباً ويقظةً. والاديب الذي يقع في هذا الفخ لن يسلم من تسرب الزيف والكذب والادعاء واليأس والاستسلام إلى كتاباته.

ولقد صور كونديرا حال الاديب الذي ثوريته تعني الالتزام تصويرا سرديا ممثلا بشخصية(ك) في رواية المحاكمة(الرجل الثوري المزعوم يواصل إذعانه لهذين المقتحمين اللذين لم يرفضا فقط ان يتنازلا ويعرِّفا عن نفسيهما، بل أكلا طعام إفطاره وأبقياه واقفا مرتديا منامته طول هذا الوقت. وفي نهاية مشهد الاذلال هذا يمد لهما يده مصافحا فيرفضان مصافحته يقول احد الرجلين: احسب انك تود الذهاب الى المصرف؟ فيرد (ك) مستغربا الى المصرف؟ حسبت أني رهن الاعتقال) (كتابه: الوصايا المغدورة، ترجمة معن عاقل، ص208) وحاول اورويل في رواياته مثل 1984 ومزرعة الحيوان، فضح الثورية بمعناها المادي وكيف يفشل الالتزام في تحقيق غاياته المثالية التي بدلا عنها تتكون صور مرعبة للمجتمع التوتاليتاري. ولقد ناصر سارتر المواقف الثورية المناهضة للاستعمار وانتقد فرنسا بشدة بسبب ممارساتها الاضطهادية بحق الشعب الجزائري لكنه مع ذلك حذّر من الالتزام المتمادي في الأدب الذي يؤدي إلى رؤية الثورية بعين واحدة (لقد وقع كل شيء تدريجيا ولا شعوريا.. ولكن عندما رفعنا رأسنا رأينا في المرآة وجها غريبا وبغيضا انه وجهنا) (مواقف مناهضة للاستعمار، ص61ـ62) ولأن الالتزام يولّد الاتباع والانصياع، فلن نفرق بين الضحية والجلاد والجرح والسكين كما أن التخوف الناجم عن الالتزام سيجعل من الثورية عبارة عن محكمة فيها تُقام مرافعات الاقصاء والنبذ وحتى الاعدام(تقام المحاكمة ليس من اجل تحقيق العدالة انما لافناء المتهم وحتى حين تقام محاكمة لاموات فذلك لكي تتمكن المحاكمة من اعدامهم مرة ثانية باحراق كتبهم وابعاد اسمائهم عن الكتب المدرسية وتحطيم روائعهم وتبديل اسماء الشوارع التي حملت اسماءهم) (الوصايا المغدورة، ص235) من هنا يوصي الأدباء الحقيقيون في مذكراتهم وحواراتهم بأهمية التحلي بالبحث عن الحقيقة من خلال التحلي بالثورية التي تتجاوز مفهوم الالتزام والمسؤولية. فالاديب الحقيقي من التصق بالواقع من أجل أن يغادره محلقا كي يرى نقائصه وسلبياته وكي لا ينظر الى ذاته إلا لكي يرى فيها مرآة مجتمعه فلا يتورط في الانغلاق ولا ينساح في الطوباويات.ومنطقية هذا التصور تكمن في انها تمنح الادب الجمال الذي به لا يعود للالتزام وعدمه أهمية في اثبات الثورية ومن ثم لا حاجة الى محكمة وجلاد، ولا الى افتعال وتخطيط، بل هي التلقائية والتحرر اللذان معهما يغدو صحيحا كل نهج ينهجه الاديب نحو الظفر بالحقيقة. واذا كان للاديب أن يحسب حسابا لاولئك الذين يدفعهم ولاؤهم أو يحملهم زهوهم على المراقبة والمحاكمة والتأنيب، فإن حَسْبَ الأديب أن يكون باحثا عن الحقيقة. وعندها لن تنال منه أية مؤامرة ولن يُوسم بخيانة الضمير ولن ينال منه أي تشهير أو أية تهمة ما. وما من تعارض أو اختلاف بين البحث عن الحقيقة والتحلي بالاخلاق كما أن لا مثلبة في ان يسخِّر الاديب أدبه لوجه الحقيقة غير آبه بالالتزام ولا مؤمن بالامتثال للرأي العام، لأن المهم هو التحرر الذي فيه القوة وبه المَنَعة من أي تطاول حتى وإن نُصبت له محكمة.  أما إذا التزمنا وقلنا إن الأديب مفروضة عليه الثورية بمعناها الميداني في تبني القضايا المهمة والمصيرية وأن من لا يظهر التزاما نحوها فلا يساوي أدبه شروى نقير، فعندها تكون روح المحاكمة قد نجحت في(إلغاء ثقافة هذا القرن ولن يبقى وراءنا الا ذكرى فظائع غناها كورس اطفال) (الوصايا المغدورة، ص238) واذا كان الادباء الملتزمون يدرؤون ذلك كله بان يقبلوا السير في الضباب فإن الذين سيحاكمونهم انما يسيرون في العتمة كالعميان. أقول هذا وانا أرى أن حدث الاحتجاجات التشرينية التي دامت عاما وأكثر كانت قد اجتذبت الأدباء إليها واختلفت صيغ تفاعلهم معها؛ فمنهم من كتب قصصا وقصائد من قلب الحدث ومنهم من تخيل الحدث وعايش ميادينه تخييليا فكتب بتلقائية وفورية. وما بين المعايشة والفورية تحرر وتلقائية، ولا يهم إن كانا عفويين أم كانا قد خُطط لهما كما لا يهم الاديب التزامه بوجهة نظر ما أو الوقوف الى صف طرف ما، لأن صدق المعايشة وسلاسة فوريتها يجعلان الثورية سمة الاديب ملتزما كان أو غير ملتزم. وهذه الثورية هي التي تضعه على طريق البحث عن الحقيقة وعندها يكون النجاح حليفه فلا  جريمة ولا محاكمة ولامجزرة هو فيها الجزار والجلاد والاضحية. إن التشبث بالحرية والتلقائية طرق أساس لانقاذ الذات المبدعة من مخاوفها ولاسيما الخوف من إبداعها. كي لا تكون طريدة سهلة الاقتناص من قبل الجلادين الذين يبحثون في المياه العكرة عن فرصة صيد ثورية الأدب. وإذا حصل وظفروا بها لا سمح الله فسنقرأ عندئذ على الحقيقة السلام، لأنها ستغدو مجرد حلم ذهب مع الريح.. وهذا هو جل ما يخشاه الأدباء الحقيقيون. ولعل أخطر ما يواجه ثوريتهم هو التحجر في الايديولوجيا، هذا التحجر الذي يعرقل بلوغهم الأهداف ويبعث على تبني مقولات السرد الثوري والخيال الثوري والخيال السياسي والسرد السياسي والسرد الفاضل والسرد الوطني..الخ والتي تحشِّد الادب ـــ والسرد تحديدا ـــ بطريقة موجهة تجعل منه وسيلة لاغراض ثيماتية خالصة تقف عند حدود الموضوع والتخطيط له بقصدية. وبما يجعل الثورية عرجاء، فيها الامثولة ولكنها بلا صيرورة ولها مرجع وليس لها تطلع أو طلائعية. وعدم طليعية الثورية في السرد أنها تعويضية لا تريد أن تكون في المقدمة فتجرب الممكن واللاممكن، بل تريد دوما استئناف الممكن الذي فيه السارد حالم وهو يعلم أنه حالم يرتدي قناع المقموع والمغيب والمفضوح. وما كان للدرس النقدي البنيوي أن يحفر في أساسات البنية السردية منغلقا عليها إلا لكي يترفع عن دراسة الثيمات ولكي لا يغرق في اتون الافكار وزيف محاكاتها الواقع وما يلحق به من خيانة واسطرة وعلل ثم اكمل الدرس النقدي ما بعد البنيوي اهتمامه بالبنية منفتحا بها على سياقات محايثة وغير محايثة، واضعا يده على مفاهيم ومصطلحات بعضها صار قارا وبعضها الاخر لم يحقق تجذرا ومع ذلك ليس للثيماتية فيها أي موضع.  وحينما نقول إن الثورية في السرد طليعية فذلك لانها لا تبحث عن اعتبار او اخلاق او قيم موضوعية، ولا بغيتها بناء تشكيل معياري قياسي وبصيغ فنية، بل الثورية خيط فاصل وواصل بين السرد وبحثه عن الحقيقة. واقول فاصل حين يُفهم كالتزام، واقول واصل حين يُفهم كجمال. والبحث عن الحقيقة هو وحده الذي يجعل للسرد ثوريةً تتجلى واضحة بلا براقع أو اقنعة، فلا يلحقها أي تعويض أخلاقي أو اسقاط تضحوي. فالسرد بالحقيقة يرتقي، وما دامت الحقيقة هي هدفه فلن يدين السارد نفسه ولن يصاب بالجنون تاركا ضميره يؤنبه كما لن يكون مصيره القبوع في الظل سامحا لضبابية الواقع أن تعكر رؤيته فيغرق في الثورية ناظراً إليها سائلة لا يمكن مسكها مع أنها بين يديه وطوع أمره.

عرض مقالات: