اخر الاخبار

انضم فالح محيي الشلاه الى كوكبة كتاب كانوا قد قضوا العمر في القراءة والتأمل والمتابعة لشؤون السياسة والفكر والجدال، ولم يستسلموا، مبكرا، الى غواية التأليف وإصدار الكتب، ليس بسبب انعدام الثقة بكفاية المعلومات، او خشية خذلان وسيلة التعبير، او لنزعة نحو الانطواء واللوذ بظلال المنعطفات الآمنة.. واستدرك القول ان الشلاه، مثل فرسان هذه الكوكبة، يبرز كما لو انه ولد وبيده كتاب، ولم يعد يعرف بالضبط من اي يوم بدأ رحلته مع الكتاب.  عدد كبير من اصحاب هذه التجربة كتبوا روايات وسرديات ودواوين شعر واعمالا فكرية، وحتى رسوما ومقطوعات موسيقية في طور حياتهم بعد ان قطعوا الصبا والشباب، وما يمكن ان نسميها مرحلة النضج، وتنبغي الاشارة الى ان سبل واسباب وظروف ارتياد هذه التجربة متعددة بالنسبة لاصحابها، بين ما هي ذاتية إرادية، في الغالب، وما هي قاهرة وخارجة عن الارادة في نماذج محدودة. كاتب القصص البوليسية الشيقة “ريموند تشاندلر” مثلا جاء الى الكتابة على اثر فقد وظيفته في صناعة النفط التي ضربها الكساد، فيما انشغل المصري خيري شلبي في هوامش الاهتمامات قبل ان يتخذ قراره في التحول الى التأليف ليكتب روايته الشهيرة “نسف الادمغة” في الستين من عمره، اما العراقي رياض رمزي فقد قضى عمرا في التحصيل الاكاديمي لينال شهادتين مرموقتين وفي غضون ذلك قرأ مئات الكتب والتهم مكتبات كاملة قبل ان ينصرف في ما بعد العقد الخامس من عمرة  الى تأليف عمله المبكر المثير “الدكتاتور فنانا” ثم روايته الرائدة “التيس الذي انتظر طويلا” وليشق الطريق بكفاية لافتة الى مجد التأليف. يكتب فالح محيي الشلاه بوتيرة راسخة موضوعات تتحد في همّ الراهن العراقي “أنزف ألماً لخراب حضارة”  وتتوزع منه الى حوارات مع النفس المخذولة مما لحق بها من أذى، وحوارات موازية مع الآخر المتسلط الذي يقف حائلا دون استتباب العدالة، ويقتحم المكان من مساراته التاريخية والعيانية، ووسط كل ذلك يفاجئك كمن يحلق في سماء ممتدة الى ما لا نهاية.. وفيما بين هذا وذاك يدس شجونه طي السرد الانيق الذي يبرع في ترويض دويه ويُخضعه الى دواعي الكفاح من اجل قيم المحبة والعدالة، لنكتشف  ان كل ما يحيط الكاتب يصلح ان يخضع للحوار حتى المدس حيث يعلن “قراري أن اموت” ثم ينتفض بالقول “لا أخافه” اما حواره مع الحمار فيبدو كما لو انه شكوى من انسان اعيته الوعورة الى حكيم او الى عابر سبيل “لا استطيع حملك الى البرلمان أو الى منصب” فيما تعبر الثيمة المركزية للكتاب عن نفسها في ما يحرص الكاتب على صياغته في هذا التوزع الوجداني البانارومي على طائفة واسعة من الموضوعات، واحسب ان مكان الام احتل قلب تلك الموضوعات.. الام “ست الحبايب”.. “تنورك المستعر” وفيها تحتشد المكابدات والغصات “سامحيني.. فارواحنا اودعت في رهان المحاصصات” ثم يأتي الشهداء ويغادرون ليتركوننا “ونحن عراة” يتقدمهم الشهيد صفاء السراي الذي صعد مسلة تشرين..”صديقي الحبيب، وضيف أشجاري وبيتي الراحل ...كيف أفسدت أحلامك؟”  وقبله من عمق التاريخ رائد علم الكلام خالد بن عبدالله القسري الذي اختطف الخليفة هشام بن عبدالملك حياته، وكم جلاد اختطف حياة سرب الفتيان من ابناء الحرية، ثم تطل المرأة من صفحات الكتاب المواربة، وعند فالح ان “المكان الذي لا يؤنث لا يعوّل عليه” مقتديا في ذلك بابن عربي. من الامكنة والاسماء والشهداء والراحلين والمغنين والام والزوجة والابناء والرواد.. مثلما يتوزع جسم عروة بن الورد “بين جسوم كثيرة” الامر الذي اشار اليه فالح في واحدة من سرديات كتابه هذا بنوع من الحماس. لقد توقفت مليا عند حوارات الكاتب مع نفسه، واحببت اسلوبه في التحريض ضد الضحالة، وفي تهيئة قارئه ليتصالح مع جماليات المكان..”عند عشية الامس، حيث تناغمت ايقاعات الجمال الكوني، ارتخت الشمس منحدرة كالعرجون، متكئة على افقها، نائية الى مخدعها، وهي تلملم ما فرشته من نور، ملوحة بكف الغسق، تحيات وداع، بلون احمر برتقالي(.....) فاصبحت رمزا لوطني” ولم اجد قسمات تميز سردياته عن قصصه عن انتباهاته عن تغريداته بحيث اغامر فاضعها طي “خانات” متقابلة، فثمة بكاء وفرح، وخوف وأمل، وتمرد ومصالحة، في كل كومة حروف على بياض الورق، وثمة اسئلة معلقة في اجاباته، وثمة اشارات تحذير في كل صمت يعمّ مواجيزه. الموت عند فالح محيي الشلاه يتجاوز الاستحقاق العمري الى معنى من معاني الحياة، فلا تضنن انه يستسلم الى مشيئة قابض الارواح، وحين يكتب في “عزرائيل في ضيافتي” عن تلك اللحظات المتوترة فانه يختزل الحوار مع ضيفه الثقيل الى معركة ضروس: “ارادة حب الحياة تولد في نفسي” وتحت عنوان “هذا انا” يربكه الموت لكن لا ينهزم امامه..”أحب الحياة. أعشق الجمال” بل ان محمولات الموت التعبيرية تتداخل على نحو فني موسيقي لنتفاجأ بـ”سكرات اليقظة” مرة، وبـ”احمل حتفي على كتفي” في “رسالة حب” مرة اخرى.. واحسب ان كاتبنا عاش مكابدة معقدة او ارهاصة ضارية لبناء رؤياه عن الموت والحياة. اسماء العابرين من على جسور فالح كثيرة، وقد ازدحمت بهم سطور وفصول وقصص وسرديات الكتاب، من الغلاف الى الغلاف، طه باقر. الجواهري. الامام علي. سيد الشهداء. تشايكوفسكي. الحاج زاير. مظفر النواب. القديس فالنتاين. ابن عربي. سيمون دوبوفوار. زكية خليفة. خالد بن عبدالله القسري. سعدي الحلي. أنو بيشتم، وكل تلك الاسماء والامكنة والحوارات والمعارك والمصالحات تدور بين 17 نصا، و5  قصص قصيرة ، و6 مرويات نعي و9 تهاني واستذكارتين. بعد ذلك.. فاني اتقدم الى قراء هذه الالمامة، والى الكاتب الصديق فالح محيي الشلاه الذي تجمعني به فصيلة دم من جنس حب الحياة، بطلب السماح عن “برودة” هذا العرض حيال البلاء الذي حل بنا، وببلادنا، واحلامنا، والتزام سطوري فروض المعاينة الموضوعية، المدرسية احيانا، في وقت انضمّ الى نداء مظفر النواب الذي دوّى طي هذا الكتاب:

“أروني موقفا اكثر بذاءة مما نحن فيه”.

عرض مقالات: