اخر الاخبار

يعتد نص  “ مصاطب الآلهة “* للقاص الراحل محمود جنداري امتداداً لكل نصوص المجموعة  الثمان ، أي الواحدة تتغذى من الأخرى ، أو الكل تستمد ديمومتها من مشيمة واحدة ، وبالأخص نص “ زو العصفور الصاعقة “ ، ففي هذه النصوص لا نعثر نهائياً على أي شيء مركزي : شخصية – حدث – مكان – زمان – ثيمة ، يطغي على محاور النصوص ، لتلتقي مجتمعة في تأسيس نصوص تجريبية مفتوحة داخل الخطاب القصصي على شكل انزياح سردي ، تمتاز بالمغايرة والاختلاف ، تستند على مرجعيات : تاريخية – اسطورية – واقعية ، تحيلنا خارج النص تماماً الى ما وراء السرد ، والى ما وراء القص ، للعثور على الشفرات والاشارات المتواجدة داخل النص ، والواقعة في منطقة يتداخل فيها الوهم بالحقيقة ، والمتخيل بالواقع ، تحت مظلة الرمزية المبطنة لجميع المرجعيات ، مما يلزم القارئ على بذل مجهود كبير من أجل قراءة عميقة فاحصة مع مقارنة الصور المتخيلة الظاهرة بالصور الواقعية المضمرة وذلك من اجل إعادة تجميع آفاق النص الدلالية .

وهذا ما اشار اليه جنداري نفسه في الكلمة التي القيت في اتحاد أدباء العراق عن نصوص “ مصاطب الآلهة “ عام 1994 ، حينما قال : “ إنها نصوص قصصية مبنية بطريقة خاصة ومتفردة . قد تحتاج الى مزيد من الوقت والتمعن ، للكشف عن منطلقات تكّونها الإبداعية “1 . بمعنى أنها شبيهة بالكلمات المتقاطعة ، التي تحتاج الى وقت وتفكير وقوة ملاحظة بالإضافة الى ثقافة عميقة في المجالات كافة، وهذه الطريقة في البناء “ الخاصة “ و “ المتفردة “ كانت في الاستعارة والمجاز والتلاعب في حقيقة الأشياء / المعلومة من اجل توصيل المراد توصيله على الرغم من التشظي والتشتت المتعمد في النص، والاشتغال على تقنية الظاهر/ المعلن والباطن/ المخفي ، الذي تم بواسطة المتخيل الادبي الذي ابداع صوراً ، واحداثاً ، جديدة غير واقعية .

   هنالك تسأل يتبادر الى ذهن القاريء ، حالما تبدأ بالقراءة ، لذا علينا قبل الخوض في تحليل نص “ مصاطب الآلهة “ أن نستعرضه ، لماذا استلهم محمود جنداري2 الاساطير السومرية : ملحمة جلجامش – قصة طوفان نوح – السبي البابلي لاورشليم – عشتار ودموزي – ملكة كيش كوبابا / صاحبة الحانة – الملكة اميتيس زوجة نبوخذ نصر الثاني، والتراث العربي الاسلامي : مروان بن محمد – ابو مسلم الخراساني ، في بناء نص “ مصاطب الآلهة “ . فمن خلال توظيف هذه الاسماء التاريخية / الاسطورية، عمق وعيه بالتحولات الوجودية ، وبالذات الوعي السياسي العالي ، في عملية سردية هادئة من حيث اصبح الحاضر ماضي وبالعكس ، عليه التجأ الى الاسطورة بدلاً من الحاضر ، والتجأ الى المحمولات الرمزية الموجودة في الاساطير ، وهذه الحمولات المختلفة في انساقها وتوجهاتها مرتبطة جميعها بوعي ظاهراتي حاد مع قصدية حذرة ، في إعادة صياغة مفاهيم العلاقات الممكنة القائمة بين  “ الأنواع الرئيسية الثلاثة للخطاب السردي ( الأسطوري والتاريخي والتخييلي ) و ‘العالم الواقعي‘ التي ترجع اليه من دون شك “3 . لذا استخدم محمود جنداري : الترميز ، والاستعارة ، والإحالة في السرد ، لتأسيس علاقة جدلية بين المتخيل والتاريخ والواقع ، وليس ذلك فحسب ، بل أن هنالك علاقة متبادلة قوية بين المتخيل والتأويل .

إن هذه الأنواع الرئيسية الثلاثة للخطاب السردي ،استخدمها القاص بحيث دمج أو مزج هذه  الأنواع في بوتقة واحدة مع إضافة الغرائبي اليهم ، لتكون في بؤرة قص مركزية ، مستقلة بذاتها ، متوحدة في توجهها ، ذات اهداف مرسومة بدقة وقصدية متمكنة ، حيث يقول جنداري عن تجربة هذا الاشتغال ، أن “ الدوافع الحقيقية للمزيد من الكشف والبوح ، تظهر علناً وفي زمن الكتابة ، عبر اجتراح مسارات جديدة وصعبة الى حد ما ، مثل مسار اختراق التاريخ “4. بحيث تصبح هذه الأنواع مع الغرائبي نسيج لحظة الكتابة ، الكتابة الشاملة والمعقدة بالنسبة الى المتلقي ،أي أن  هذا النسيج يأخذ بالتشكّل لحظة الكتابة . نتيجة تلاعب القاص بهذه الأنواع . وفق منظومة من التحولات الفكرية والايديولوجية والفلسفية المستندة على التحولات الاسلوبية والبنائية ، التي تؤدي بنا الى رصد وكشف الواقع الحاضر ،  وعن حمولات هذا الواقع الرمزية المتخمة بالدلالات والانساق المضمرة ، نتيجة كثرة التناصات في الأنواع الثلاثة من : اسماء – امكنة – ازمنة ، مختلطة ومتداخلة مع بعضها ، لتمنحنا وحدة المنظور الرابط بين لحظة التاريخ السردي الظاهرة وبين لحظة الحاضر المضمرة .

   وهكذا ، فإن “ السرد التاريخي يشبه السرد التخييلي ، إلّا أن هذا يخبرنا عن مثل هذه الأعمال التخييلية اكثر مما يخبرنا عن مثل تلك الأعمال التاريخية . إن السرد التخييلي أبعد ما يكون عن عكس السرد التاريخي بل أنه يكمّله ويتحالف معه في الجهد البشري العالمي المتمثّل في التفكير في لغز الزمنية “5. مهما كانت الاختلافات بين الحدث الواقعي والحدث المتخيل فإن محتوهما الاخير هو ذاته . هنا يتقاسم المتخيل السردي والمتخيل التاريخي ، في الانفتاح اللامحدود ، وفي عدم التقيد بأي شيء ، عليه يتطلب منا أن ننظر للتاريخ كخطاب ، وكشيء بالاستطاعة التلاعب به من قبل السارد ، ومن قبل القاريء .

ولاستخلاص المعنى من خلال اشتراك القارىء والقاص في لعبة التخيُل ، ويمكن ان ندعو “ نتاج هذه الفعالية الإبداعية البُعْدَ الفعلي للنص ، الذي يمنح النص واقعيته ، وهذا البُعْد ليس هو النص نفسه ولا تخيل القاريء : انه نتيجة النص والتخيُل معًا “6.

    ولو علمنا ان المصاطب كانت تقام عليها المعابد السومرية القديمة أو بيوت الآلهة ، ويحلو للبعض أن يسميها “مصاطب الآلهة” . ومن امثلة المعابد المقامة على مصطبة معبد تل العبيد الكائن في موقع خفاجي ضمن منطقة ديالى ، الذي يعود تاريخ تشييده الى عصر فجر السلالات الثاني ، وقد تم العثور على نص يذكر فيه ان تشييد هذا المعبد يعود الى زمن الملك “ آنيبادا “ ملك اور .

تفتتح القصة بهذا الشكل ، مشهد غرائيبي ، وسرد متداخل متشظي :

“ وضعوا سلال الخوص التي انجزوها تواً . وضعوها في الظل حول جذع نخلة فتية اخذت تنمو منذ سنوات نمواً غريباً ومضطرباً ثم جلسوا على مصاطب من المرمر في صفين متقابلين وراحوا يلملمون شتات الحكايات ويعيدون ترتيب اجزائها المفككة وسط صمت ظلامي  هذا المفتتح يعطي القاريء اللماح فكرة واسعة عما سيكون النص عليه ، حيث يتكون المشهد من: شجرة غريبة ومضطربة ، مصاطب من المرمر متقابلات  يلملمون ويعيدون شتات الحكايات المفككة ، في صمت ظلامي .

ثم بعد قراءة عدة صفحات من القصة ، يبين لنا السارد وظيفة السلال والتي يسميها “ سلة الحكايات “ ، حيث نكتشف أن المحتويات التي توضع داخل السلال هي التأريخ : المزيف أو الملفق أو الحقيقي ، فالحكايات هي تاريخ البشرية المغمسة بالدم منذ مقتل هابيل على يد قابيل ، مع أن الإنسان اخو الإنسان ، ولكن ، كلما مرت حقبة ارتفع منسوب انهار الدم حيث “ لا تنفك تدور، سلال الخوص ، حاملة بداخلها الحكايات ملفقة وحقيقية على رقم من طين او رقاع من جلد غزال يجلس فوقها أخر الملوك “ , عندئذ نعلم بان ما يعني بالسلال هي الحقب و المحتوى هو التاريخ المنسوخ على الرقم الطينية ، وهذا التاريخ مهما تغيرت عصوره فهو محكوم من قبل الملوك الذين تتغير اسمائهم ولا تتغير افعالهم من حقبة الى حقبة  : “ امبراطور – ملك – امير – رئيس – زعيم – جنرال “ . ولكن جميعهم  “ طواغيت من حجر “ .

يبين لنا السارد العليم ، منذ البداية ، بإشارة واضحة الى أن الآلهة متفقة ومتعاونة مع الملوك ، في تسهيل وشرعنة افعالهم من خلال القوة المفرطة والاستعانة بإصدار فتاوى لـ تسخير الناس وفرض الضرائب العالية عليهم ، واستعبادهم عن طريق التجنيد الاجباري ،والقوانين الجائرة ، حيث الآلهة والحكام هنا يمثلون سوية سلطة قمعية ، وهذا نشاهده في المقطع التالي دماء وخوف ، ينزف الناس دماءً خوفاً من الآلهة  “ حفروا عميقاً في الارض شبراً وراء شبر ونزفوا كثيراً من الدماء قطرة وراء قطرة .

حفروا خوفاً من الآلهة . حفروا تحت رقابة صارمة امام اعين الجند المدربة على التقاط البريق من مسافات بعيدة ، حفروا تحت لذع السياط سياط جند الملك اسرحدون أو سنحاريب أو رعميس ، المعروفين بالدقة اللامتناهية في متابعة الفؤوس التي تهوي ، والمنهالين بالضرب فوراً على من يتوقف .

من يتوقف يمت “ .

يتوقف – يمت افعال مضارع  آنية مستمرة  في كل الازمنة والامكنة ، وهكذا “ منذ عشرات القرون  وهم الملوك بالسوط يضربون الخارجين من كهوف شايندر  ليس ذلك فحسب بل نرى مشاهد فظيعة بشعة وحشية مخيفة للسلطة المطلقة عندما “ يذرون الرمل فوق نقاط الدم التي تناثرت على الارض ، وعلى الارض تسقط الآن قطرات الدم والعرق ومن الارض تنبعث للتو رائحة فريدة هي رائحة الدم والتراب “ .

ولكن ليس باستطاعة أحد أن  يغطي بالرمل الدم .

فالدم ينبثق من الارض ، ينمو عشباً قانياً احمراً ، يطفو فوق الماء مشكلاً بركاً حمراء ، الدم الدم يُسفك في كل الحقب والازمان ، لأنها “ دهور الهلاك “ والموت المجاني .

التي أبتدأت منذ خلق الخليقة . ومنذ أن اصبح للعالم ملك وأله .

وفي نص “ مصاطب الآلهة “ استلهم القاص اربع شخصيات من التاريخ ، القاسم المشترك بينهم ، هو انهم يمتازون بانهم كانوا آخر الملوك أو أخر الخلفاء في الحكم ، والمدن التي يحكمونها تسقط ، وقد ركز عليهم القاص بشكل ملفت للنظر ، الذين هم :

نبونيد : كان آخر ملوك الامبراطورية البابلية الحديثة حكم من 556ق م حتى سقوط بابل . على يد كورش الكبير في 539 ق م ، كان نابونيدوس أخر الملوك لبلاد ما بين النهرين القديمة ، ولم يكن هذا الملك من العائلة المالكة ، وهو يقول بصدد ذلك في احد نصوصه “ أنا نبونيد الذي لم يتشرف بانحداره من نسل ملكي”.

عرض مقالات: