اخر الاخبار

شعر نابونيد بالمهانة عندما عرف عن طريق الاله مردوخ في لحظة لقاء عاصف بينهما انه أخر ملك سيجلس على عرش بابل . اضطرب عقله وانحرف سلوكه وانجذب بهواه النفسي الى معبد الاله سن في حران ، حيث تعتكف هناك ، ومنذ خمسة الاف سنة ، امه كبيرة الكاهنات .” .

ريم سن الاول : هو ملك اموري لسلالة لارسا ، وكان آخر ملوك سلالة لارسا ، وسع هذا الملك نطاق مملكته الى اوروك وايسن ثم بدأ عدة حروب جديدة ضد بابل في زمن حمورابي ، الا أن بابل هي التي انتصرت في النهاية :

عند حدود مارخاتس يحتشدون بصفوف متراصة ويندفعون كالسيل ويزيحون خصم بابل ريم سن ، ملك لارسا المدعوم من العيلاميين ، ويكتسحون اسوار الجبس من حول مدينة ماري ويدحرون الى الابد عدوتهم اشنونا  ويشيدون اسواراً من الدم والكبريت والقار والرصاص .

مروان بن محمد ( 72 هـ / 691م – 132هـ / 750م ) آخر خلفاء بني امية حتى سقوط دمشق . كان شجاعاً بطلاً لا يفتر عن محاربة الخوارج ، حتى ضرب فيه المثل في الشدة  فقيل “ أصبر في الحرب من حمار “ ولذلك سمي مروان الحمار : ومن يثرب خرج مروان باتجاه الشمال ، الى حران  مطارداً أو مطروداً حاول المكوث عند المعبد لكن خيل ابي مسلم الخراساني ، اجتازت الجسور العباسية والعثمانية والحقب ، وعبرت من نهر الى نهر ومن بحر مظلم الى بحر مظلم   . واضيئت بابل للمرة الاف  واغتمت بابل للمرة الاف ، لما هرب الملك الاخير امام ابي مسلم . توقف في قنسرين وقاومه اهل حمص ، وبصق اهل حماه على اعراف الخيل المخذولة فامر الملك المهزوم بان تصوب المنجنيقات اليها . واصل الملك تقدمه نحو حران  ولكن خيل ابي مسلم كانت تنتظره عند ضفاف النيل فتمكن منه الجند ، وقتلوه . قطعوا راسه وعلقوا جسده على عمود وقطعوا لسانه ورموه لقطعة جائعة “ .

وللدلالة على ان نص “ مصاطب الآلهة “ الذي كتب في حزيران / 1988، و نص  “ زو – العصفور الصاعقة  الذي كتب في تموز /1988، قد جاءا متقاربين جداً من حيث الأسلوب وبناء الجمل ، وانتقاء الكلمات  بل حتى من حيث الإنْسَاقَ المختلفة : الثقافية – السياسية  اللغوية ، قد استخدمت على نهج واحد ، برؤية متداخلة واحدة ، يصعب تمييزهما الا بصعوبة لانهما من نسيج واحد غير مختلف يؤديان ذات الوظائف ، الا في الشخصيات التي اسُتْلهمت لأغراض مقصودة من قبل محمود جنداري لتحقيق غاية ما معينة ، أو فكرة ما ، والمقطع السابق المقتطع من نص “ مصاطب الآلهة “ الذي انهى به القصة خير دليل عند مقارنته بمقطع قريب منه ، من نص “ زو- العصفور الصاعقة  وعليه يجب ان يكون قارىء المقطعين على دراية كافية بأسلوب جنداري ، مع امتلاكه مرجعية ابستمولوجية واسعة ،وثقافة عميقة تاريخية – سياسية – اجتماعية  لكي يتمكن من فهم ومعرفة مقاصد السارد ، ففي المقطع الاول كان هناك بابل ، والخليفة الاموي مروان بن محمد  المقتول ، والقائد العباسي ابو مسلم الخراساني / القاتل ، أما في المقطع الثاني كان هناك فقط مدينة بابل التي تنهض ثم تختفي ! : من الضوء ظهرت بابل / وفي الضوء دخلت . نهضت في الضوء قبة من صخر ، فوقها قبة من حديد ، فوقها قبة من نحاس ، وفضة وذهب ، وخشب من شجيرات الارز وجوهرة بحجم الشمس ، ومخلوقات تتحدث بسبعين لغة ، والف عام وهي تحت الشمس ، مثيرة للدهشة ، تغسلها الشمس تسبح احداهما في حجر الأخرى / بابل والشمس / يقدمان نذوراً وقرابين تُقبلُ منهما على مدار الزمن بمحبة ، والاسوار ، تحرسها أسود الآلهة ، وثراها البليل / بابل / تعجن منه الطينة المقدسة التي يخلق منها الإنسان . ثم اختفت بابل / وازورت عنها الشمس وهدت الرياح اسوارها ، وفرت الأسود الى الجبال “7.

ابو مسلم الخراساني(100هـ / 718م – 137هـ / 754م ) هو عبد الرحمن بن مسلم الخراساني ، صاحب الدعوة العباسية في خراسان ، ومن ثم اصبح وليها ، وهو حسب الروايات الفارسية واحد من احفاد آخر الاكاسرة يزدجر الثالث ، سير ابو مسلم جيشاً لمقاتلة مروان بن محمد آخر خلفاء بني امية ، فهزم مما جعله يفر الى مصر ، فقتل في ابوصير وزالت الدولة الاموية سنة 132هـ ، وقتل الخراساني على يد الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور وذلك لتعاظم نفوذه وازدياد شعبيته بين القادة والجند ، وخوفه منه ان يطمع في الحكم :

“ كان ذلك من اجل بابل : خض ابو مسلم في صدور الخراسانيين ليجعل له نكهة فارسية ورفع كورش رقيماً من هنا ووضعه في مكتبة ورمى بآخر في تلك السلة التي بلغت الآن شواطىء البحر “ .

قبل ان نبحث لماذا اختار القاص هكذا شخصيات اشكالية ؟  لنقرأ ما كتبه عام 1970 عن الالتزام في الكتابة حينما يقول “ اذا كنت تكتب بتجرد ، فانك لن تقول شيئاً ذا اهمية  . هذا يعني الاختيار ، الذي يعني الانحياز بالضرورة “8.يعني ان هنالك قصد مبطن في النص يلتقي مع قصد القارىء في القراءة ، على اعتبار “ الانتقاء ، إذن ، هو فعل تخييلي طالما انه يميز الحقول المرجعية للنص بعضها عن بعض وذلك من خلال ابراز وتجاوز الحدود الخاصة بها . وتنشأ عن هذه العملية قصدية النص ، وهذه القصدية لا تتماثل مع النسق المعني بالأمر ولا مع الخيالي في حد ذاته ( لأن اشتراطها يعتمد عموماً على تلك الأنساق الخارج نصية التي تكون مرجعاً ) بل هي موضوع انتقالي يكون بين الواقعي والخيالي ، لها كل خاصية مهمة تكون للواقع ، فالواقع يمكن في الطريقة التي يمارس فيها الخيالي تاثيراً على الواقعي “9. ان موضوع القصد يتطلب الى فاعل له قصد معين ، ولذلك سوف يكون هنالك فاعل واحد الذي هو الفاعل الحقيقي الاكثر ثقة بمسألة النص القصصي انما هو القاص . وعلى ضوء هذا تتحقق إمكانية تبادل المعنى بين القاص والقارىء معاً .

هذه الشخصيات الاربع هي بالإساس قد وضعت في صور فنتازية – تخيلية ، حيث أن من الصفات المميزة  للفنتازيا في ادراج العناصر الخيالية دخل اطار متماسك ذاتياً “ متناسق بالداخل “ ، ويكون الخيال نابع من الأساطير والحكايات التراثية فكرة أساسية متسقة . بداخل هذا الشكل ، ويمكن تحديد أي مكان لعنصر الخيال : قد يكون مُخبأ ،أو قد تسرب الى ما قد يبدو اطاراً لعالم حقيقي  ، كما يمكن ان ترسم الشخصيات في عالم باستخدام هذه العناصر ، أو قد توجد كاملة في اطار لعالم خيالي ، حيث تكون هذه العناصر جزءاً من هذا العالم ، بمعنى أن الفنتازيا والواقعية السحرية متداخلتين ، متشابكتين ، متقاطعتين في الاشتغال ، مختلفتين في الرؤية ، فالفنتازيا تصور عالما لا يمكن ان يكون . عند تناولها ما لم يحدث ولن يحدث ، وكذلك كانت البنيات الأسطورية التي تميز الفنتازيا جزءاً من اعظم الاعمال الأدبية بدءاً من ملحمة جلجامش ، والف ليلة وليلة ، والمجموعة القصصية “ مصاطب الآلهة “ و مائة عام من العزلة.

المغامرة والمتخيل

اقول ، لا يمكن كتابة هكذا نص من دون الاستعانة بالمتخيل – التأويلي ، لأن اللعبة / المغامرة هي جوهر المتخيل – التأويلي ، فهي حاضرة ، وبالذات الخيال ، منذ رسم اول حرف أو كتابة اول حرف في مدينة اوروك مخترعة الكتابة ، ومنها ظهر الحرف الاول ، والمشترك في هذه اللعبة ، لعبة المتخيل ، هما المؤلف والمتلقي ، ولكن لكل منهما دوره في اللعبة ، فالمؤلف يقدم نصًا غامضاً ملغزاً ، والمتلقي عليه كشف الغموض وحل اللغز ، وتحقيق ادبية النص وجماليته ، عندئذ تكون القراءة مُمتعة لأنها ستكون فعّالة وإبداعية 10. قد يتخذ التأويل من المتخيّل الخاتل في الذاكرة الجمعية مادة انطلاق في تحليل نص ما ، وفي اللحظة ذاتها يكون فعل التخيل فعلاً تأويلياً في جوهره ، ولأن المتخيل يكون هنا قابلاً لاحتواء مفاهيم جديدة ، كما أنه يكون متواصلاً مع الطروحات المختلفة والمتغيرة ، فهو كما تقول عنه ايفلين بتلجيون أي المتخيل “ يتكون من جملة التمثلات التي تتجاوز الحدود المرسومة لشروط التجربة “ 11 :

في تلك الساعة المريعة التي بدأت فيه رحلة مروان من يثرب وانتهت في صعيد العمارنة . رقاق من جلد الغزال فيه سور من كلام آنو الكبيرة مركبة بطريقة فذة تصف انتصارات نابونيد وشطحاته. ملوك يكتبون تاريخهم بأنفسهم عبر الآلف الزجالين والمداحين والنساخين ، ملوك يهوون الصيد ويحبون خصي العبيد ، مستمتعين بالصراخات وهي تترد في ارجاء بابل .

ومن النساء اللواتي لعبن دوراً مهماّ في “ مصاطب الآلهة هن ، الملكة كوبابا ، ملكة مدينة كيش ، ذكرت في قائمة الملوك السومريين ، وتقول القائمة انها حكمت لمدة مائة عام ، وهي اول ملكة لسلالة كيش الثالثة ، وانها كانت صاحبة حانة حسب ما جاء في الرقم الطينية فالنص لم يذكر أنها كانت ملكة لمدينة كيش ، بل يذكرها على انها صاحبة حانة فقط :

صوت السيدة الجبارة – كوبابا – مديرة الفندق الوحيد الذي وافقت الآلهة على تشييده بعشرين طابقاً من خشب .

فندق الربة عشتار الذي أسسه على جماجم عشاقها قبل طردها من الاجتماع ونفيها الى العالم السفلي .

والمرأة الأخرى الملكة اميتيس ، ابنة أو حفيدة ملك ميديا وزوجة الملك نبوخذ نصر الثاني ، تزوجها الملك لإضفاء الطابع الرسمي على التحالف بين السلالتين البابلية والميدية ويذكر ان حنينها الى وطنها أدى الى بناء جنائن بابل المعلقة ، لذا نقرأ المقطع السردي الذي جاء في نهاية القصة بمخيلة مفتوحة مستعرضة النص كله، ولماذا تركها نبوخذ نصر الثاني  عذراء لثلاث ليال  الا بعد ان طلبت الآلهة منه العودة لفراش اميتيس من اجل بابل ، ولكن لماذا هذا التعامل الوحشي ؟ ، مما يعني ان “ يشير النص ذاته الى طبيعته الرمزية ، أي أن ينطوي على مجموعة من السمات المؤكدة التي يمكن تحديدها والإمساك بها ، سمات يحملنا النص من خلالها على القيام بتلك القراءة الخاصة التي هي التأويل “12 ، وهذا الشيء لا يمكن ان يحصل الا بعد قيامنا بعدة قراءات مختلفة لـنص “ مصاطب الآلهة “ ، من خلال الحفر والبحث لاستخراج ما اراد القاص ان يستعرضه ويقوله للقارىء :

“ قام الى اميتيس ، جردها من ملابسها ، مستخدماً راس مدية مصنوعة من عظمة حصان ، وما أن دخلها حتى استغاثت ، وتولت تقطيع خيوط الحرير بيديها لقد انهى السارد العليم قصة “ زو- العصفور الصاعقة “ ، باختطاف الواح الحكمة من قبل الآله زو وطار بها نشواناً ، وانهى قصة “ مصاطب الآلهة “ ، بإعلان الآلهة أن  “ دهور الهلاك “ قد بدأت .

وما بين سرقة الواح الحكمة / المعرفة – الفلسفة ، وبدأ دهور الهلاك / الموت ، ضاع الإنسان الحالم ، الشبيه به  الذي كان تائهاً وسط اهله ، منفياً داخل وطنه ، هارباً داخل ذاته ، متمرداً على العالم .

ــــــــــــــــــــــ

الهوامش والاحالات

*محمود جنداري –  “ مصاطب الآلهة “ قصة ، مجلة الاقلام العدد 6 في 1/ يونيو / 1988م، دار الشؤون الثقافية ، بغداد / العراق .

جميع الاقتباسات التي ترد في متن الدراسة مأخوذة من نص قصة “ مصاطب الآلهة “ المحصورة ما بين الصفحات 59 – 67 لمجلة الاقلام الانفة الذكر .    

1 -محمود جنداري – الاعمال الكاملة ، تموز للطباعة والنشر والتوزيع ، دمشق / سوريا ، 2018م ، ص 459 .

2 - يقول الروائي محسن الرملي في موقع الناقد العراقي في 6/4 / 2012 في مقالة تحت عنوان “ الإنسان ..هو تراكمات مكانية قراءة في القصص الاخيرة لمحمود جنداري زو نموذجاً “ ،كان محمود جنداري “ يقرأ ملحمة كلكامش مرة في كل عام “ .

3 - هايدن وايت – محتوى الشكل : الخطاب السردي والتمثيل التاريخي ، ترجمة : د نايف الياسين ، هيئة البحرين للثقافة والآثار ، المنامة / البحرين ، 2017م ، ص 363.

4 - محمود جنداري – الاعمال الكاملة ، ص 457.

5 - هايدن وايت – محتوى الشكل ، ص 384.

6 - جين ب تومكنز – نقد استجابة القارىء : من الشكلانية الى ما بعد البنيوية ، ترجمة :حسن ناظم  و علي حاكم صالح ، دار الكتاب الجديد المتحدة ، بيروت / لبنان ، ط2 ، 2016م ص113 .

7 - محمود جنداري – زو – العصفور الصاعقة / قصة ، مجلة الاقلام العدد 11- 12 في 1 ديسمبر 1988م ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد / العراق

8 - محمود جنداري – الوجه الواحد في خطوات المسافر نحو الموت ، مجلة الاقلام العدد المزدوج 11- 12 نوفمبر 1970م ، بغداد .

9 - فولفغانغ إيزر – التخييلي والخيالي ، ترجمة : د حميد لحمداني و د الجلالي الكدية ، مطبعة النجاح الجديدة / الدار البيضاء ، 1998م ، ص 13 .

10 - أسامة غانم – جدل التأويلية : الكتابة / النص – القراءة / الفهم ، دار الحكمة للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة ، 2022م ، ص 74.

11 - م . ن ، ص 73.

12 - تزفيتان تودوروف – الرمزية و التأويل ، ترجمة وتقديم : د اسماعيل الكفري ، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ، دمشق / سوريا ، 2017م ، ص 44 .

عرض مقالات: