اخر الاخبار

شهدت الشعرية العراقية تمثلات واضحة وجلية لثيمة” الحرب” التي انتقلت صورها وفجائعها من واقع محتدم شهدته ثمانينيات القرن الماضي،وحتى اللحظة والبلاد تلامس أطرافها الشظايا.وكانت الحرب سردية كبرى رافقت اجيالا من الشعراء الشباب، شكلت لديهم خلاصة تعبيرحيث جلهم قد أنخرطوا مقاتلين عند جباهاتها، فكانوا بمواجهة نارمستعره لثمان سنوات،انتجت لنا نصوصا مغمسه بالوجع والندم والدم، وتركت لدى الشعراء “ ذاتا جريحة” أدمنت الفقدان بعد ان تسرب طيف الحياة التي يحبون من بين أصابعهم.

من هنا كان موشور الذات الشعرية العراقية يلتقط إشعاعات فداحة الحرب ومراياها العاكسة، فجاءت “خطابا” حمل الكثير من الصورالفادحة والفاتكة للروح الإنسانية،حاملة دهشتها عبر عملية تمثلٍ مذهل وتصوير بانورامي ،منطلقا من وقائعية الحدث الى إدهاشية الصورة الشعرية..تسح عنها خطابا نصياً شعرياً دّون تلك الفداحات والتقط المضئ منها والمنكسرعلى حد سواء، من لسان الذات لأكتمال عملية التدوين.فكانت نصوصا شعرية إصطفت في مجاميع شعرية كتبت تاريخها على بوابات المشهد الشعري العراقي.

وما زالت ترسبات الحرب وصورها المستعادة بفعلها اللآنساني عبر انتقالها من الجبهة/ الحدود/ المواجهة المحتدمة ضد عدومُعرف مدجج بستراتيجيات حرب مواجهة الى / الداخل ــ المدن / حيث العدومجهولاً ولحظة إنفلاق” مفخخة” لاحساب له في عدد الساعات والأيام.

وكاهن الخذلان للشاعر علي الشيال، إنموذج راسخ للذات الشاعرة ،وهي تدون اوجاع الحرب بعد أن عاشت أهوالها.فبعد إنجلاء غبار المعارك وجد الشاعر نفسه أما أطلال لبلاد أدمنت حروبها!! فكان عليه مسائلة التاريخ والقدر على حد سواء. بعد أن سلخت الحرب منه الكثير وأماتت فيه بزوغ إرادة الشباب وتجدد طاقة الحب وقوة بعث الحياة التي يريد.

فبعد أن خلع بدلته “ الخاكية” وجد نفسه “كاهنا” في محراب الكلمات،متأملا هذا العالم الضاج من حوله،مسائلا ومتسائلا عن كل شئ حدث..ولماذا حدث،وما سيحدث لاحقا.

(( كل هذه الحرب لي ولك حرية التأ ويل))ص10

إذاً هي ذات بمواجهة أسئلة المصير القادم، حاملا عذاباته ككاهن في معبد سومري يقرأ الغيب ويستجلب ما سيأتي،وغبار الحرب مازل يغطي أسوار معبده.

(( في حرب قادمةٍ/ قتُلتُ بنيران صديقة)) ص15

وقد شكلت المجموعة “قاموسا” لمفردات الحرب ظاهرا ومعنى، وأعتمدت بتشكيلها الشعري التكثيف اللغوي لرص أكثر من طبقة “ خيالاً وجسدا ومعنى” لرسم صور شعرية لاتكتفي بتعبيراتها الواضحة بل تضمرتأويلا يتجدد في كل قراءة،وتلك هي واحدة من مهمات الشعرالذي لايستنفذ معناه،بل يحفل على الدوام بطاقة قصوى في إيصال شفراته الدلالية.

قلنا أن كاهن الخذلان “ مصفوفة شعرية” اعتمدت توقيعات إنسانية في معمارها الفني وبنائها النصي على الورق،توقيعات حملت سحب المخيلة في استدعاءتها مركبة على صدمات الواقع في جساراته، عبر لغة راشحة من مقطيعة الصورة الشعرية بكل كثافتها وتوكيدها الشعري مبنى ومعنى. الشاعر على الشيال اختار منطقته الكتابة كاهنا،متاملا في معبده، يرقب ماتقاطر من صور شعرية لحظة نزولها على مذبح الآلهة.. فيقبض منها النابض بلحس الوجودي ةالطافح على مرايا الأيام، والباذخ في حدته حد الوجع، مدونا إياها مصفوفة شعرية أرخت لنا فجائعية الحرب ومتوالياتها،وأيقنت لنا أن الشاعرهنا موقفاُ وشاهداً ومدوناً.

من هنا تبقى مهمة الشعر الخروج من شرنقة المصير المحتوم الى فضاءات التعبيرفكانت القصيدة/ النص شاهداً وأثراً.وتلك واحدة من أهم إنجازات قصيدة النثرالتسعينية في العراق ((حيث من الشعراء من شغلت الصورة مساحة واسعة في عمل مخيلته،فقد كانت قصيدته عبارة عن مشاهد حسية تجمع بين ماهوحسي واقعي،وماهو ذهني متخيل،لكنها في الوقت نفسه تعبر عن إحساسات الشاعروهو يواجه الواقع المعيش بروح ممزقة تارة،وأخرى يائسة تبحث عن بصيص أمل وسط صحراء معتمة)) د.جاسم الخالدي/ الكتابة على جدا أخضر/ص 54.

ــ مائة وواحد مقطع شعري شكل متن “ كاهن الخذلان” تدرجت هذه المقاطع في أيقاعها الدرامي من (قصيدة الصورة الى النص الوجيز الى نص نثري مكتفي بدلالته وبلاغته إن صح التعبير.متزامنا نفسيا في تراتب إيقاعي بنيّ على “ أسطر ثلاثة أختزلت الى جمل ثلاث” حملت قوة المعنى ورشاقة المبنى لقول ماتريد متأتٍ من إدهاش صوري مستعيرة جذرها المعماري من تشكل “الأبوذية” بأبياتها ولغتها وتوريتها.

(( علمتنا الحروب/ ان نعرف الفصول/ من رائحة الجثث)) ص27

(( هل تحب الحرب/ نعم ياسيدي/ أحبها كزوجة أبي)) ص28

ــ ولأن الذات الإنسانية يتصاغر حجمها أحيانا امام هول مايحدث، بسبب إستلابها من قبل أخرغائب عن المشهد لكنه مدجج بسلطاته وجبروته،ذو نزوع لقيادة الروح البشرية كقطيعٍ مدخلاً إياه حقول الغام المعارك،من هنا تظل الروح تنشد خلاصها عبر التجلي مع الذات الآلهية..

(( علمتنا الحروب/ ان نحفظ الكتب المقدسة/ بلا معلم)) ص31

(( الحرب جائعةٌ ياأبتي/ ولم يبق من جسدي/ شئ ليطعمها)) ص34

ــ في تنامي الحدث الشعري ل” كاهن الخذلان” يكتمل المتن المعنوي الذي أراده الشاعر،مع تلمس ذروة التعبيرفي تصاعد إدانة الحرب ومخلفاتها،وفضح الممارسات التي حصلت جرائها في لغة شعرية أرادها علي الشيال متساوقة مع شدة الألم الذي حمله كذات إنسانية تستشعر وجودها الحي.يرى الناقد د.حاتم الصكرفي كتابه ( الثمرة المحرمة)  ص37،ما قوله (( ولا أظن أن أحدا يتجاهل خصوصية الحالة العراقية القائمة منذ عقود وما تفرزه من ألم ومعاناة تتيح الحديث عن هوية خاصة بالقصيدة العراقية))..

والشاعر علي الشيال كان مدوناً مخلصا للحالة العراقية التي تحدث عنها الصكر،والتي هي مراحل عدة مستجمعاً قواه طاقة شعرية، واقعا في جدلية الحب والحرب، فبقدرفجائعية الحرب،هناك تشوفات الروح التي خدشت ممثلا بوجود المرأة / الحبيبة في هذه المصفوفة الشعرية كاهن الخذلان،وبعد ان ينضو عن جسده ثوب الحرب الخاكي، مستعيداً بعضا من أدميته يرسم الشاعر صورة اكثر أشراقا تخالف الحرب في المقداروتساويها في المحصلة النهائية “الموت”...

(( سيتوقف هذا القلبُ قريباً/ هذا القلب..

الذي كان يحتويكِ من كل الجهات/

وسيرمى هذا الجسد الأسمر/في حفرة بعيدة

عن أسراب البلابل/ سيكتبون على الشاهدة:

“ هذا القبرلشاعرمجهولٍ انتظرك طويلا” )).ص73

عرض مقالات: