اخر الاخبار

تجلس الملكة مع صويحباتها على العشب قرب النهر، خلفها خيمة صغيرة صنعت في ايطاليا، تحيطهم أشجار كثيفة جلبت من البرازيل، لا تسمح لمتلصص عابث ، أن يسترق النظر الى اجواء مجلسها النسائي الساحر، يطوق رجال الحماية والحرس هذا المكان على مسافة مئتي متر بشكل دائري ، تلمح وجوههم خلف الاشجار، وهم في كامل الاستعداد للقضاء على البشر والطيور والحيوانات ان تمادت من الاقتراب الى مجلسها.

تريد الملكة ان تعوض خسارتها بهروب زوجها الملك، الذي انشغل عنها في السنوات الماضية في ادارة الحروب، تريد الترويح عن نفسها، تعلم أن أهم انشغالات زوجها هو النساء ، فمنذ خمس سنوات لم يقترب من فراش الزوجية وعندما تطلب منه البقاء معها ليلة واحدة ، او حتى ساعة يتعلل بانشغاله بادارة الدولة

ها هي الملكة تجلس امام النهر، وتفكر كيف تنتقم من اهمال زوجها لها، تعلم أن الدنيا ملك يديها ، فبأشارة منها، يُجلب لها كل شيء، ومن ارقى المناشيء ، ترتدي الان ثوبها البنفسجي المطعم بالدرر الذي يثير حسد زوجة نائب الملك وزوجة وزير الصحة وزوجة وزير الدفاع ، يكشف الثوب عن ذراعيها ويكاد يصل الى اخمص قدميها ، لا تريد أن تستخف بنفسها، فترتدي الملابس التي تكشف عريها ، لكنها تحلم كثيرا، لو أنها تتمدد الان على العشب عارية، تحلم ان تلامس جسدها ايد حانية، رقيقة، لتأخذ منها تعاستها التي تراكمت كالصدأ على جلدها، تشعر أن المياه في داخلها تتجمد.

لكنها فجأة، وهي سارحة التفكير بتعاستها، سمعت صوتا يأتي عبر مويجات النهر ، صوت غناء رجالي، يأتي مع الريح، ليصل الى سمعها، فأوقفت بحركة من يدها رطانة صديقاتها غير المجدية باشارة حازمة، وطلبت منهن الاصغاء مثلها الى ترنيمات هذا الصوت الرجالي وذبذباته العذبة ، ينثر المغني البعيد صوته عبر الريح فتاتي به اشعة الغروب ومويجات النهر الى أسماعهن، كتمت النساء ثرثراتهن، تغلغل صوت الغناء الى روح الملكة ، وانتقل الى جسدها كله ، عبر الى مساماتها ، كانت تصغي بحياد ، بتوجس ، برهبة ، ملأ رئتيها بعطره ، ثم أشارت الى احد حراسها ، هرع اليها هذا، فهمست باذنه شيئا، انطلق الحارس عابرا النهر بمشحوف معد للنقل بين الضفتين، وما هي الا دقائق قليلة ، حتى جاء المغني مرتدياً دشداشة بيضاء ، وجهه حنطي، ونظراته فيها براءة وسذاجة اهل القرى البعيدة، انصرف الحرس، ووقف المغني امامها مذعورا خائفا يتصبب عرقا ، قالت له الملكة “ اريدك ان تغني لي لوحدي “ وطلبت منه أن يذهب الى الخيمة خلفها، أمسكته خادمتها الارمنية وادخلته الى الخيمة، نهضت الملكة وغمزت الى صديقاتها، ثم جاءت اليه ودخلت الخيمة، مازال عطر صوته يملأ عليها رئتيها، وقفت امامه، شمّت تلك الرائحة التي ينبعث منها صوت الرجال، جلست، وهي تكاد تنهار من وقوف رجل تملك كل حواسها، ولولا مكانتها ، لخرت ساجدة الى قدميه لتقبلها، انه صيدها السمين الذي حصلت عليه اليوم، امرته ان يغني لها وحدها ، فانطلق صوته، ليتسرب خارج الخيمة، خارج المزرغة، عابرا الانهار والبحار والوديان والجبال حبست الطبيعة انفاسها وهي تصغي الى عذوبة صوته، وبعد ساعة من الغناء، انقطع الصوت، ما جعل صويحباتها يكتمن ضحكاتهن غير البريئة، وبدأن ينظرن الى بعضهن البعض نظرات واضحة المعنى ، ثم خرج المغني يحمل بيده ورقة صغيرة تسمح له بالدخول الى قصرها، فانطلق يركض الى المشحوف ليعبر النهر، أخذ المشحوف يلبط به كالدلفين ، تطايرت دشداشته في الريح  كما لو انها تريد نزع ثيابه.

ولما عادت الملكة الى قصرها ، عرفت أن الوحدة ستقتلها ثانية، فلا المدلكة الارمنية تخفف عنها، ولا جمهرة العازفين و الراقصات اللواتي جلبن من اقاصي الارض يروحن عن خزنها وتعاستها، فهي الملكة التي تملك كل شيء في الدنيا، غير ان الشيء الوحيد الذي تريد امتلاكه غير موجود، ظل يدوي صوت المغني في مسامعها، وغمرها عطر صوته الذي ملأ اشواقها، تعلم ان مليكها مشغول بالحروب وانها استطاعت ان تعفي مغنيها من المشاركة فيها، بورقة صغيرة ارتجف لها كبار قادة الحرب في البلاد .

جاء المغني الى القصر ، واخذ يغني لها لوحدها ( بلا ي وداع ) ، تصغي له، فيما كان خيالها يسبح معه على مهل، تسبح معه في الفيافي والقفار والصحراء العطشى، وفي لحظة فارقة، أشارت اليه بالتوقف، وطلبت منه أن يغني لها على الفراش، هناك أمضى المغني وقته يغني طوال الليل ( بلاي وداع ) هناك غاص في بحر الالحان الجديدة التي لم يكن ليسمع بها من قبل، ثم تعب ونام نومة هانئة الى الصباح ، وعندما فز من النوم ، وجد الملكة غائبة عنه، وثمة رجال مدججون بالسلاح يحيطون بالسرير الملوكي يتطاير الشرر من عيونهم ، فأخذوه عاريا .. عاريا  الى الغياب ، بلاي وداع.

عرض مقالات: