اخر الاخبار

(1)

لا جدال على مكانة (نازك الملائكة) في الجيل الشعري العراقي الذي تنتمي إليه (جيل الريادة الحديثة) ، ووعيها المؤشر لتمايزه في مرحلة ثقافية عراقية شهدت تحولات أدبية كبرى شاركت زملاءها في إنتاجها بمسعى لتخطي السائد والإتيان بالجديد من التجارب الشعرية التي تنسجم ومتغيرات العصر وتوجهاته. وسينضاف لامتيازات حضورها كونها شخصية (نسوية) اخترقت الخضم الذكوري المهيمن على مشهد الثقافة العراقية حينذاك ونافسته ، لترسي لاسمها ومنجزها مرقى لايدانيه الوجود الثقافي النسوي المحايث لها ، ومثله ما لكثير من الرجال أيضاً. ولكن ذلك كله لايقف ممانعاً بوجه مداولات حصيفة تستعيد استقراء متحقق (نازك الملائكة) الشعري والثقافي ـ بما له وماعليه ـ بعيداً عن البهرج الاحتفائي الشاغل هذه الأيام ، وضمن مسرد من الكشف يقف عند دورها في مسألة ريادة (الشعر الحر) ، ويعيد تأمل مآلات شاعريتها ، لينتهي عند الحضور الأهم لها الذي يتجلى بعيداً عن متنها الشعري ونوازعه، منضداً في منجز كتابي مضاف.

(2)

لا يظهر الجديد من الإبداع على سطح التداول دون سابق من خطى التأسيس وإرهاصات التبشير المتدرج في مسعاه ، فليس من طبائعه أن يكون كالنبات البري الذي يخرج إلى السطح على نحو مفاجئ وطارئ. إن له مراحل متصاعدة من التجريب والتأمل وتتابع المثال ، بذهنية تدرك أن ليس من سجايا الإبداع ألا يواصل نزوع التجديد ويتبناه ، وإلا فكيف يكون إبداعاً إن تحجرت أقدامه ، وسكنت روحه ، مكتفية بما لديها لا تغادره إلى ما يفيض من آنية الإصغاء للوجود الإنساني ومكاشفات أزمنته المتلاحقة بجديدها؟ ذلك ما كان من تجارب متواترة عايشها شعرنا العربي ، أخذت به نحو مرامي التجديد فأدركتها بما تهيأ لها من أشكال شعرية تجاور القالب التقليدي الموروث وتنال حصص تمايزها عنه ، ولعل (الشعر الحر) أبرزها وأخطرها. وهو الشكل الذي لم يعد مفهوم (ريادته) ـ بقالبه الذي انتهى إليه ـ منبتاً عند الأسبقية التاريخية وحدها ـ على أهمية وجودها الملزم ـ كونها مما نهدت إليه تجارب عربية وعراقية كثيرة سبقت مثاله المتبنى أخيراً الذي صار الغالب من أمر ريادته تناهبها من قبل أكثر من شاعر عراقي ، مع أن التاريخ يضفيها على (السياب) وحده ، إذا ما استذكرنا أن ديوانه الأول (أزهار ذابلة) جاء من القاهرة (مطبوعاً) ـ وفيه قصيدته الحرة (هل كان حباً) ـ في الشهر ذاته من سنة1947م الذي نشرت فيه (نازك الملائكة) قصيدتها (الكوليرا) ، وذاك ما يعني أنه نظم قصيدته هذه قبل مدة تتجاوز تاريخ إرسال مخطوطة ديوانه إلى صديقه (فيصل السامر) المقيم في القاهرة ، ليتولى أمر طباعته هناك . ولعل هذه الواقعة تحسم أمر السبق التاريخي لصالح السيّاب وتغلق باب الجدل نهائياً فيه. ولاشك في أن أمر السبق التاريخي لا يكفي وحده لأن يفاض بوصف (الريادة) على ذلك الأديب والفنان أو سواه ، وهو الأمر الذي وعاه السياب حين قال :” ومهما يكن فإن كوني أنا أو (نازك الملائكة) أو (علي أحمد باكثير) أول من كتب الشعر الحر أو آخر من كتبه ليس بالأمر المهم ، وإنما الأمر المهم هو أن يكتب الشاعر فيجيد فيما كتبه ، ولم يشفع له ـ إن لم يجدد ـ إنه كان أول من كتب على هذا الوزن أو تلك القافية “.

إن للريادة ـ كي تتجلى مفهومها دالاً ـ اشتراطات أهم وأجدر بالتحقق من الأسبقية الزمنية. نعد (المدرك المعرفي الواعي) أولها، وهو الأمر الذي لا نغمط تحققه في وعي بعض شعراء جيل السياب الآخرين ـ كنازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي ـ غير أنه وعند السياب ـ أكثر من سواه ـ أمسى يقيناً يتمثل قيمه ويعايشه كل حين ،عبر استيعابه لمقومات إنتاجه النامية والمتطورة. يأتي بعده (تقديم المثال الشعري المتميز بتكامل جوانب الإبداع فيه)، ولعل أية مقارنة بين منجز السياب الشعري وسواه من شعراء جيله ستنتهي لصالح متحققه الشعري وحده.  وسيكون الاستمرار والتواصل في تبني الوعي التجديدي ، والثقة به ، والمناداة بمثاله هو ثالث الاشتراطات . وفي منجز السياب ما نعده أفقاً خصيباً تهيأ للشعرية العربية أن تدلفه معه وبعده. وسيلحق بالاشتراطات أعلاه مدى ما لتجربة الرائد من التأثير في تجارب الآخرين ـ مجايلين له أولاحقين بهم ـ الذين سيصبح كثير منهم مريدين حقيقيين لتجربة ذلك الرائد لا يخفون منافذ تواصلهم معها ولا يصادرون تأثرهم بها. ولاشك في أننا لن نجد لشركاء السياب في تاريخية الريادة من حصة تجاري ما له من ذلك.  حين نتأمل تجربة الملائكة الشعرية ـ من منطلق تلك الاشتراطات ـ سنقرّ لها ـ جدلاً ـ بالريادة التاريخية المجاورة لما كان للسياب ، قارين لها أيضاً أنها عززت تجربتها في التجديد بوعي تنظيري مبكر راحت تبشر به ومن خلاله في مدة من الزمن . غير أنها مالبثت أن تجافت عن كثير من طروحاتها السابقة ، ليصار الأمر إلى مراجعة تجديدها الشعري ، فيؤشر عليها نقضها لوعيها الذي انطلقت منه في االمناداة الجارفة بالتجديد ، وتبنيها لمواقف (تقنينية) راحت تحاكم باشتراطاتها ذلك التجديد وتسحب عنه كثيراً من قناعاتها فيه . وهكذا ، فهي” لما وقفت ـ والقول لبنت الشاطىء ـ لم ترد لزملائها أن يستمروا في محاولات التجديد ، وكتبت كتاباً نقدياً حاولت فيه أن تفرض عليهم من القواعد ما يلزمهم بالثبات على ما وصل إليه جهدها الشخصي ، ويحرّم عليهم أن يزيدوا عليه انطلاقاً ، واحتجت لمحاولتها هذه بحجج غريبة ، لو طبقناها لرفضنا جهدها نفسه “(د. جلال الخياط ، الشعر العراقي الحديث ـ مرحلة وتطور، ص168. وينظر مصدره). وإذ نعود لتأمل مسألة الريادة مشخصة في تجربة نازك الشعرية التي لا يكاد يختلف أحد على أنها كانت فيها شاعرة مجددة ، وانضواؤها في التداول التاريخي الذي تحقق للشعرية العربية المعاصرة أن تدلفه  فإن السؤال المهم الذي يحتاج إلى جرأة موضوعية في طرحه ، وجرأة أكثر من موضوعية في تبني الإجابة الصريحة عنه هو : هل يمكننا أن نتحدث عن شاعرية الملائكة أبعد من (مسألة الريادة) وأسس التجديد التي قامت عليها ؟

(3)

من رغبة عارمة في مواجهة (الذكورة) الثقافية المهيمنة بإنجازها الإبداعي والنقدي بادرت (نازك الملائكة) لتقديم ماعنً لها من عطاء شعري وآخر نقدي ، سلكت فيهما طريقين بدت سمة التضاد بيّنة فيهما ، مع أنهما ينطلقان من ذات واحدة ، وينتهجان نوازعها الذهنية والشعورية. لقد وجدت نفسها في خضم نسق شعري ذكوري مهيمن فواجهته بثقافة شعرية أنثوية. أما ما رأته من توطد للكتابة النقدية الذكورية ، فكان أمرها معها مختلفاً ، إذ قابلتها بخطاب نقدي يتقمص الذكورة ذاتها ويجاريها في أدواتها واشتغالاتها، وذلك ما سندلف لتفصيله. ابتداء من عنوانات دواوينها ستعلن نازك عن تمركز رؤيتها في حقل الأنوثة قبل أي شيء آخر، إذ جعلت  لدواوينها كلها عنوانات ذات توصيف انثوي: (عاشقة الليل - 1947)، (شظايا ورماد - 1949)، (قرارة الموجة - 1957)، (شجرة القمر - 1968)، (مأساة الحياة وأغنية للإنسان - 1970) ، (للصلاة والثورة - 1978). وكان الديوان الوحيد الذي حمل عنواناً مذكراً هو: (يغير ألوانه البحر- 1977) ، غير أن الشاعرة ـ مؤكدة نسق الهيمنة الأنثوية الذي احتكمت إليه ـ أقصت الفاعل المذكر (البحر) إلى أخر الجملة جاعلة إياه بعد المفعول به. ولم تكن عنونة مجموعتها القصصية الوحيدة بعيدة عن هيمنة النسق الأنثوي ، إذ هي : (الشمس التي وراء القمة 1997م) . أما مضامين شعرها فلا يختلف النقاد على انضوائها في الاشتجار الذاتي الأنثوي ، إذ أجمعت دراساتهم التي تناولت شعرها بسماته الفكرية والجمالية على تميزه بانشداده إلى خصوصات لا يكاد يغادرها حتى يعود ليجد طمأنينته الأدائية فيها ، فما يهيمن عليه جملة من الانشغالات الشعرية المغرقة في الذاتية تلك التي انتهجتها ـ منذ دواوينها الثلاثة الأولى ، ولم تنأى عنه في الغالب على دواوينها اللاحقة ـ ليستحيل ذلك مساراً من التخيّر الشعري صار دالاً عليها وحدها “ قوامه ـ اليأس والألم ، واستعادة الماضي وإثارة ذكرياته والبحث عن حرية لا تجد لها تفتحاً إلا في الشعر”(4). (د. جلال الخياط ، المصدر نفسه ، ص166). ولعله ـ ونتيجة لذلك ـ بدت تجربتها الشعرية في كثير من المواجهات القرائية منقطعة إلى تفردها بما استتب لها وحدها ، فلم يتهيأ لها أن تصنع مريدين يتمثلونها ، حتى لدى بنات جنسها ، بوصف تجربتها ذات طبيعة انثوية . وعلى هذا فنحن نستطيع بيسر أن نجد من تأثر بتجربة السياب، ومثله بالبياتي ، ولكن العين لا تكاد تقع على أي شاعرـ أو شاعرة ـ تحدث عن تأثره بتجربة نازك الشعرية.

 (4)

جاءت عنونة مؤلفات الملائكة النقدية على النهج الشعوري الذي تهيمن عليه نزعة التأنيث ذاتها، فهي : (قضايا الشعر المعاصر، بيروت 1962م) ، (الصومعة والشرفة الحمراء ، القاهرة 1965م) ، (سايكولوجية الشعر ومقالات أخرى، بغداد1993م) ، (التجزيئية في المجتمع العربي ،بيروت 1974م) . كما انجزت قراءات نقدية عن عدد من الأعمال الروائية والمسرحية ، كروايات : (الخندق الغميق) لسهيل إدريس ، و(الشيخ والبحر) لأرنست همنغواي ، و( عبث الأقدار) لنجيب محفوظ . ومثلها المسرحيات : (الأيدي القذرة) لسارتر ، و ( السلطان الحائر) و(يا طالع الشجرة) لتوفيق الحكيم. تناولت نازك في هذه الكتابات حقولاً أدبية وثقافية متعددة استتب لها فيها حضور ثقافي بارز ، غير أن   شاعريتها ـ المتداولة جهداً أساساً لحضورها ـ كانت سبباً في تغييب كثير من كشوفاته المهمة. ولعل ذلك كله ما يؤكد لدينا اليقين بأن تجربتها الشعرية لا تعكس سمات شخصيتها في أبعادها الثقافية ، ولا مؤهلات خطابها وماتحقق له من مجادلات معرفية رصينة . فهي لم تستجب تماماً لما تهيأ لصاحبتها من تشكيل وعي ، وتمثل لتخير قرائي جاد ، وتأمل لكثير من الظواهر الثقافية ، وإبداء الرؤية الناضجة في تأملها واستنطاق قيمها. لقد تهيأ لنازك في منجزها القرائي النقدي ـ ببعديه التنظيري والتطبيقي ـ أن تقف عند جملة القضايا التي ينهمك في معاينتها المشهد النقدي العربي المعاصر ، لتقف عندها ، وبـ (فحولة) نقدية متعالية ، تكرّس فيها وعيها وحساسيتها الخاصين ، وبما أثار كثيراً من الجدل النقدي والأسئلة وردود الأفعال. وسيسلك كتابها (التجزيئية في المجتمع العربي ) النسق ذاته . إن قارئه لا يتردد أن ينظر إليه بوصفه تجربة رائدة في التناولات الثقافية التي تندرج بعض كشوفاتها في آفاق النقد الثقافي وانشغالاته الراهنة ، قدمتها نازك بوعي متقدم عن مرحلتها ، وفي جملة من الدراسات اللافتة للاهتمام الثقافي منذ عنواناتها ، مثل : مآخذ اجتماعية على حياة المرأة العربية ، طريق الفرد العربي إلى فلسطين ، الأدب والغزو الفكري ، شخصية الآخرين في الأغاني العراقية ، العطش والعطاش في الأغاني العراقية . لقد تبدت في هذا الكتاب جملة من الخصائص الدالة على النضج الحصيف في وعي الملائكة ومنجزها الكتابي عبر فاعلية عميقة من التأمل ، والتحليل الاجتماعي والنفسي للظواهر المرصودة وبمقدرة عالية من المصارحة والكشف ، واستحضار للمقولات والوقائع ، مدعومة باستشهادات لباحثين آخرين ، كاشفة عن العلل الفكرية والسلوكية وصورها في الواقع العربي بأبعاده كلها. ومع تباعد تاريخ مقالات الكتاب التي نشر معظمها قبلاً في مجلات عدّة فإنها تقدم مشهداً متكاملاً من الوعي المنظم الذي توافرت عليه شخصية نازك الثقافية ، وأخبرت عنه.

عرض مقالات: