اخر الاخبار

إلى سيد درويش

صداح، لا.. ليس صداحاً، بل هو صوت منغم ناشز يجسّد القبح بكل أبعاده، يتسلل خلل الباب الزجاجي للمقصف، تنغيم جعله يعيد النظر في ذلك الانسياب السلس الباذخ في تواشج سيامي بين الكلمات التي سلبته ألبابه حالما وقعت عيناه على الورقة المزدهية بمعانيها السامية العذبة، وبين ذلك اللحن الذي ترقرق من طوايا رحم إحساسه المحترف، فبشّر البلبل النسمة، والنسمة قطرة النيل، والنيل أفاريز البيوت الطينية في القرى التي تجدل ضفائرها وحسن طوالعها للفجر القادم، وأنشأت تينك القرى ترسل إشاراتها للمدن، فغنت جميعاً للحلوة التي عجنت في الفجرية، وللصنايعية الذين ارتحلوا بحثاً عن الرزق من الفجرية..

وانطلقت من فمه صرخة موجعة ملتاعة تنعي الجمال الذي نحرته نصال أصوات مبحوحة نشاز غاطسة بالغنج الرخص والنبرة الخليعة تحت رقعة الهزيع النافق من الليل... وهدير الهتافات المتخمة بالعّنة وهي تطعن طرّة فجر جديد في جمّار نابضه، فيشعر بوخزة حارقة جوار ثديه الأيسر، وقبل أن يتهالك على أقرب حاجز حديدي يسّور محيط المقصف المضيء يهرع إليه رفيقه الذي يشبهه في كل شيء حتى سترته التي فقدت أحد أزرارها، ويهمس بمحبة صادقة.

- تماسك يا رجل.

ويستلم من طواياه إشارة عاضدة تختلف عن التهكم الذي به مذ رافقه في طرّة الليل، وبعد أن يجلسه على الرصيف يأسر له.

- ليست جديدة عليك يا توأم الشظف والجوع.

وبعد أن ربط جأشه، هتف به.

- بغل حرد.

نظر إلى شبيهه النزق وقال بحدة.

- كل شيء زائل أيها الندّ الطيب، الذي يبقى فقط هو....

وينهض بفورة الشباب ويشدو.

يللا بنا على باب الله... يا صنايعية

فترمقه العيون الثملة الراكدة فوق الأعناق التلعاء الأنيقة، والعيون الزجاجية للمصابيح التعبة التي تنتظر انبلاج الصباح كي تغرق بالكرى، ويغرق شبيهه في لجة ضحك هستيري وتخرج الكلمات من بين شفتيه مهدهدة.

- إستيقظ أيها الحالم.

ثم يضع كفه حول صلمة أذنه يقول بصخب.

- شارع محمد علي كله يصدح برائعتك ويتنعم بثمر سهر لياليك وساعات التعب والإبداع.

وبعد ضحكة طويلة.

- ومعدتك يفريها القَرَى.

ينهض وتتخاطف خطاه نحو ندّه، يمسكه من تلابيبه ويهزه بعنف هاتفاً.

- كلنا مائتون بعد حين، إنْ إملاقاً أو تبطراً، والذي يبقى حسب هو هذه الملحمة.

يضحك الآخر بنزق طفل حرون ويحاججه.

- أنت تبدع والمتطفلون تملأ كروشهم من إبداعك، وأنت تملأ كرشك بالخواء، إشبع بمبادئك أيها الحالم.

ويد عضلة قاسية ترفعه عن الأرض وتدير جسده نحو مصدرها ليتفاجأ بقامة عملاقة سمراء بعينين تنثان شواظاً وغباءً، وصوت كقرع الطبول.

- أيها المتسول.... ماذا أفعل بك؟

يزجره بصوت استغرب هو نفسه نبرته الواثقة.

- أنا لست متسولاً أيها الأبله.

ويرمق صنوه المستلقي على قفاه من شدة القهقهة، فيزجره صارخاً.

- تافه.

ثم يلتفت إلى العضل ويقول بثبات.

- أنا ملحن هذا الأغنية.

عرض مقالات: