اخر الاخبار

بين أيدينا رواية لحركة أفكار جماجم تتجه نحو أحداث ، تداور الحركة بين الروح والجسد والفن والثورة . هذه الرواية اشكالية تماماً ، كونها تثير جدلاً يكاد لا يقين فيه لنهاية قريبة ، هذا الجدل يثيره شكل الكتابة في التسطير النثري والشعري  ولأغراض مبطنة ؛ فنية  سياسية ، فلسفية ، اجتماعية ، كلها مختلطة ، مُنْتَظِمَة بخيط روٍ يكاد لا يبين ، خيط كهانة لمستقبل بلاد منتهكة بجهاتها الثمان . أي الجهات الأربعة الرئيسة والأربع الثانوية ، وبإطاراتها الخمسة: (السلطة ، الثوار  العام 2019 ، التوك توك ، الطرف الثالث) ، وبطبقاتها الثلاث: الفقراء، والموسورون والأغنياء. 

ليس لنا من أمرنا في هذه الرواية سوى متابعة ما حدث وما يجب ان يحدث. والرواية تتيح لنا فرصة الدخول الى ثيمات خاصة  والاطلاع على بعض التقنيات الشائعة والمبتكرة لأنسجة الفعل الروائي لعبد الكريم العبيدي (جمجمة تشرين) .

لنتابع بعض شؤون الإخبار الروائي لجمجمة تشرين: 

الحلول النوعي المتظافر

انه عملية استثمار الشعر لخدمة النثر وبالعكس  إذ تفاجئنا رواية جمجمة تشرين بمفتاح شعري نثري خليط يمثل سرداً لرؤى روائية متبادلة التقنية ، فالشعر يخدم النثر والنثر يخدم الشعر ، وهما يخدمان معاً قص الرؤى الروائي . لنطلع على نماذج من الاشتغال المُنَوّه عنه هنا في :

1 ـ الحلول الأول : الشعر يخدم النثر ، مثاله :

(انهم هناك ، هناك يا سيدي

يرقصون ويغنون ويهزجون،

يرددون شعارات وقحة محرضة على التظاهر

ويرفعون صوراً لأسيادكَ ورموزكَ

موسومة بعلامة X””)

هذا الشعر لا يتحمل إزاحة شعرية وجدانية تماماً  انما هو تعبير ازاحي لـ (نثر أدبي) ، له رسالة فنية كونه سرداً ، ورسالة قيمية كونه موضوعاً أمده ثلاث سنين (2019 ، 2020 ، 2021) ، تم ترشيح رسالته لتكون حدثاً روائياً في العام 2022.

2 ـ الحلول الثاني : النثر يخدم الشعر ، مثاله :

[إلى الأعلى،

إلى ذاكرة الفيل.

هذا موَال يصدح في عتم ... ات الروح في صناديق مقفلة ومشمعة،

سأشد حزامي ، لا شيء يفصلني عن نغمة الخلاص]

هنا تقنية نثرية ، تحتمل ازاحة متعددة الدلالة ، متعددة الرموز ، خاصة ذاكرة الفيل ، وعتم...ات الروح ، ونغمة الخلاص.. جمل المقطع نثرية بصياغة تشبه تسطير الشعر وتقترب من ازاحة الشعر ، لكنها ليست شعراً خالصاً ، انما نسيج له مظهر الشعر وجوهر السرد . بمعنى ان النثر خدم الشعر دون ان يغادر وظيفته.

3 ـ الحلول الثالث : الشعر والنثر يخدمان السرد:

[حالما تبلغين نقطة الرجوع ، نقطة الموت يا “M “ اطوي جناحيكِ، واتركي جسدكِ يتهاوى، يهبط ببطء ، بلا مشقة ، في أبهى سقوط حر ، وألذ حالة انتحار.                     

أليس هذا ما يجيب أن تكوني عليه؟

ذلك هو الانتحار المريح.

هذه نهاية تليق بي

نهاية ورقة رابحة

متى تأتي؟

لا تهذري، أمامك فرصة سانحة للتتويج ، ابقي صامتة]

يوضح المقطع السابق انه نص شعري حائز على غموض الشعر ورموزه ، وأداء النثر وافتضاح أسرار لغته. وكلاهما معاً يخدمان قضية من تقنية السرد  بعناصرها الشائعة من (الراوي الذي هو نديم الروائي ، والشخصية المسحوقة (M) ، والحوار السري الوجداني المضلل بين الضحية والجلاد). بمعنى ان المتن السردي وبطانته الدلالية يؤلفان ومضة قص روائية.

مناول النواح السردي

تتضمن مصادر معلومات عن (النواح والمناجاة) القيميتين ، نواح احتجاج وبكاء بلوعة خارقة للعادة ، نواح يلوب ويلوم ويتألم ، نواح يتحدث عما سيجيئ ، له لغة ذو طبقات ثلاث . من طبقات مناول هذا النواح : 

أ ـ طبقة العرفان الجديد

هذا المنوال من العرفان يتمثل بنواح جديد مُحمّل بالشعر والنثر والسرد والنبوءة . انه عرفان يقسم الشخوص والأحداث الى جزئيات لمنظور من :

1 ـ منظور بطلين سلبيين تحولا بوعيهما نحو أمر الشعب ، (الرواية) ، وهما الدكتور وابنته           يارا ، وقد صار امر الشعب حتما ختاميا لهما ولأي فعل للثورة والخير :

[كُتِبَت الرواية بأمر الشعب]

2 ـ منظور مربية يارا ، خادمة جدها وأبيها ، بسعاد أم شهداء تشرين . هذا المنظور يتمثل بموقف عام لكونه يتعلق بشباب تشرين جميعهم (يا إلهي هذه ساحة حرب وليست ميدانَ التحرير ).

3 ـ منظور باهر ، ابن بسعاد (سعودة) ، المُدَوِّن لشهادته ،التي احتوتها (رؤى الدفتر المدرسي ذي الـ 200).

هذا المنظور يهتم بشهادة حامل جمجمة ثوار تشرين ، الذين لن تتعطل رؤاهم في الحب والثورة والوطن الى الأبد لأنهم رسالة الى الناس :

(هبت عاصفة العشق، وانفرط عقد السلاسل،... سيهرع باهر الى صومعته ، الى محافل دفتره السري، ليصنع ذاكرةً للحبِ ، ذاكرةً للوطنِ).

ب ـ طبقات لغة الصدمة

انها تُسهم في وضع المفارقة بمحل اللا متوقع من الحدث ، تعمل على المفاجأة في السرد. لها وظيفة أساسية ، هي انها لسان حال رصاصة صربية تعاضدت مع الطرف الثالث ، وحتى كونها رصاصة قد صدمتها قسوة الطرف الثالث :

(هنا ، حول هذا الوجار ستقام عروض للفرجة ، حافلة بالأجواء المدهشة). القناص “الطرف الثالث”، مؤلف سيمفونية الجماجم الشهرية...

ج ـ طبقات لمنوال نبوءة المصائر

انها أمنيات ، منها ما تحقق ومنها ما ينتظر ، انها نبوءة للرصاصة عن مصير الطرف الثالث ، وهي نبوءات مبنية على عينات ما تفعله الرصاصة، وما يحمله الطرف الثالث من أفعال وأفكار شيطانية . قد تكون أفكار الطرف الثالث هي أوامر يتم توجيهها من قبل الطرف البعيد المحرك لأيدي القنص والقتل والاغتيال في البلاد . انه يُبلّغ الحقائق بطريقة مباشرة جداً مع ان الشخوص لم ولن يتحاوروا بمقابلة مباشرة ، فضلاً عن ان الحوار خيالي ، بمحاكمة بين الرصاصة والقاتل :

(حسناً دعني أتلو على مسامعكَ لائحةَ الاتهام ووقائعها،

هل أنت ... جاهز؟

أنا واثقة أنَّك ستكتوي بنيرانها ا لأول مرة ، وستعاني من حدوث اختلاجات وبلبلة).

عنف ووجع

تحت طائلة العنف يسفك الوطن (وجع) أبنائه الباحثين عن (رخاء آمن ، وكرامة حقّيقية وسلام للناس والأنفس) . وعنف السلطة في البلاد صار مقابلاً لمظهر كتابات الرفض والمقاومة . وبمحاذاة لهذا تتشرب الرواية بمعان ومضامين تزج بالزجر القولي الى السخرية ، بينما السخرية تزج بقيمتها الى فن جمال ضمن رواية جمجمة تشرين ، وهي بدورها تحتاط لهذا كله بوسيط فني لكل من :

أ ـ الزجر

هو عنف بصفاته وتفاصيله، وقد يكون سبيلاً  وحيداً لسخرية من نوع ساحر ، لكن كيف يصير هو نفسه طبيعة روائية مقنعة؟ ... لعل المقطع الآتي يوصلنا لقناعة مفيدة!:

(من منّا ينسى أعراس الجماجم؟ وقائع ما قبل التهشيم ، أيام الرعب والعنف والتوحش... هذه مشاهد مطبوعة في الذاكرة ، أنتَ مصممها البارع، ... ، لا تنكر ذلك ، يا بؤس عيشتك! ماذا لو أخبرتُكَ انكَ على موعد مع مباراة فاضحة ... أو (عن) الحركة الدموية المحذوفة من سيمفونية الجماجم).

المقطع مليء بجمل العنف الزاجرة ، يكاد ان تطفح بالشتائم والقذف المريع ، على الأخص العبارات (اعراس الجماجم ، قبل التهشيم ، ، أيام ... التوحش ، (يا بؤس عيشك ... الحركة الدموية ، سيمفونية الجماجم).

ـ ان الزجر يتم من قبل الرصاصة ، التي جعلت الألم يصير طريق زجر لأي مجرم لن تنقذه الرصاصة من خطيئة تهشيم الجماجم.

ـ ان عبارات الزجر تطلقها الطلقة على يد من أطلق العنان للرصاص ليبيد الشباب الباحثين عن سمو للحب والحياة والبلاد .

ـ العبارات في أعلاه تسخر بمن أَمرها ان تدخل الى تجاويف الرؤوس الطاهرة لباهر ورفاقه.

ـ لعل أكثر عبارة للزجر هي : يا بؤس عيشك ، كونها لوماً وتعنيفاً ونبوءة .

ب ـ سحر السخرية

انه سحر أُسلوبي يمكنه ان يسهم في تطوير الذائقة النقدية والإبداعية الروائية على حد سواء، فللسخرية ندرة في الاستعمال اللغوي والثيمي  وأُسلوبها من أنجع فعاليات الترويج الفكري، وبذات الوقت ، يكون للسخرية تأثير بالغ في نفس المتابع والقارئ . اي كانت درجة وعيه.                في المقطع الآتي نجد نموذجاً لسخرية مبهجة حتى في محتواها التراجيدي :

[هل تسمع ما أسمع الآن؟ هل ترى ما أرى؟

العربة تتمايل متأرجحة، والجمجمة تترنح ، وأنا أهتز

غّدّتْ “التوك توك” أفعى طائرة ، وتلافيف المخ سلاسل حلزونية على هيأة سلالم ،

أنا قطعة متنقلة في مربعات لعبة السلم والثعبان

هذا هو مفتتح الدهشة،

نغمة رنين مسحورة]

ـ تتمثل السخرية أولاً بوجود رصاصة تروي قصة.

ـ ثم تتعمق السخرية بالسؤالين: هل ترى ... هل تسمع.

ـ ثم تكون العربة والجمجمة والاهتزاز طبيعة ساخرة مميتة مثل راحة الموت الأبدي!.

ـ ثم تبلغ السخرية قمة التخيل عندما تتحول التوك توك الى افعى نادرة (طائرة).

ـ ثم يصير كل شيء لعبة ورق اسمها (حية ودرج) أو سلم وثعبان ، وفي هذا يلوّح الروائي الى نظريته للعبة (زحليقة العراق) ، وهذا الأمر يجعل المقطع السابق سحراً فنياً قيمياً نادراً.

بنية الشغف والإخبار

نعتقد بأن شغف الكاتب ببنية وصف (هيئات)  (أحوال) كل من (جمجمة بطل ساحة التحرير، الرصاصة ، أم  البطل ، الطرف الثالث ، تحولات الطبقة الوسطى) ، جعله يدنو من الشغف بجمال وجلال الإخبار الروائي ، الذي يُسهم ـ لأول مرة في الرواية العراقية ـ بجعل الخبر شبه الصحفي حدثاً لملحمة ثورية عالمية كـ ((ملحمة تشرين شباب الجوكر)) .

ان أهم ما في هذا الاشتغال انه من نوع الرواية الجاذبة على المستوى الاعلامي والثقافي ، وانها مقنعة بتخييلها وصف الزمان والمكان واكتفائها بوصف الهيئات والاحوال. ومن طريف هذا الشغف ان (اسقط النظرة الشائعة القائلة ان الرواية الإخبارية رواية صحافية غير فنية!. اننا نرى بأن بعضاً مما قننه الروائي (العبيدي) هي من غيّرت الفهم والطقس والاسلوب عن الرواية الاخبارية النمطية فحوّلته الى الرواية الإخبارية الديناميكية ذات الشغف القرائي والجمالي . ان هذا السر يكمن في :

1 ـ احتواء العمل للسرد والشعر بدرجة متضامنة مع الخبر السردي.

2 ـ تغيير نمط الشخوص والأبطال ، مثل جمجمة باهر والرصاصة ، ويارا وبسعاد (والدكتور والطرف الثالث) ، بجعلهم جميعاً أفضية لدفتر ، أتم الشهيدُ انجازه قبل وبعد استشهاه غبر تخيل ما سيحدث.                 

3ـ وضع تسلسل الروي مضاناً لفعل المذكرات الوجدانية دون افتعال الأحداث او السمات البعيدة عن وجدان وقيم وطموحات وحاجات الجمهور .

4 ـ اعتماد اللازمات الحميمة الشبيهة بترددات النواح على الموتى ، القريبة من حتميات المصائر للقاتل والمقتول ووسيلة القتل ، وقد تكررت بجمل تزيد على المئة.                       

5 ـ تخليد الجوكر والتوك توك بجمجمة تقاسمت الروي مع الرصاصة دون عتب او لوم وكأن الرواية كلها خبر جاء من الماضي وسيظل مشتغلاً حتى المستقبل البعيد.

معلوماتية

نعتقد ان “جمجمة تشرين” هي واحدة من أقل من عشر روايات تستنطق عوالم ما بعد الموت ، وقد نقترح لهذا الاشتغال علماً حاسوبياً نسميه علم نفس الموتى الصفري.

وهو في الرواية اتحه الى :

ـ حقل علم نفس الجماجم .

ـ حقل علم نفس جثامين ما قبل الدفن.

ـ حقل علم نفس الرصاصة والقذيفة والدخان.

ـ حقل علم نفس تقابل الموتى والاحياء ، والضحايا والقاتلين.

ـ حقل علم نفس المحبين والجوكرية والأطباء والثائرين ، بعد مئة عام من رحيلهم المحتمل.

ردود الفعل التاريخي

ما يصعب على المؤرخ ان يكتب حقيقته يكون صعباً على الروائي أيضاَ ، لكن الروائي أكثر قدرة على المغامرة ، لذا جاءت جمجمة تشرين لتعوض ـ بالتسجيل ـ عن التدوين التاريخي والمجتمعي والسياسي. وعلى الرغم من ان رد فعل الرواية على ثورة تشرين رداً منصفاً ومؤازراً ، فهو رد تاريخي أيضاً ـ بمعيار الفضيلة الإنسانية. انه رد يتمثل بأهميته لتاريخ الرواية العراقية ، وأهميته كعمل فني غني بالتقنيات المتطورة والمضافة لفنية روايات الرؤى لما بعد حداثة. وعلى هامش التاريخ الروائي ، وبجوار صواخ الناس ، وبمقابل التمزق والألم ثمة صرخة للتاريخ من داخل جمجمة الشهيد متمثلاً باستغاثتين لباهر بن بسعاد /

+ الأولى : امتعاض من عمل الطرف الثالث ، مفادها:

[ـ “ارحوني”

آها...!

دعني أسمعها...

هل ترعبك عبوة غاز فارغة!؟

“اخرجوها من رأسي”]

+ الثانية : طلب الاستغاثة من الناس جميعاً:

(أنقذوني

أنقذوني منها).

+ الثالثة : اليأس من تضامن أي إنسان ، فهو أسى فردي لإنسان بلا ناصر ولامعين :

 [“آ يا ويلي!”].