اخر الاخبار

هل من ضرورة لوجود المثقف في المجتمع والعالم؟ وماذا لو اختفى هذا الكائن اللاعب في حقل الثقافة فجأة من المشهد الاجتماعي؟ ما هدف المثقف ووظيفته في حداثة تمزّقه في عالم من التجاذبات؟

هذه الأسئلة وغيرها تفتح حقولا للمعرفة واسعة، حاولنا طرق أبوابها في كتاب( المثقف الذي يدسُّ أنفه..) مقاربات في مفاهيم الإنسانية والتنوير والحداثة والهوية والوظيفة العضوية للمثقف، الراحل سعد محمد رحيم، استجابة لدعوة مشغل البديل الثقافي، بشقيه المشروع والمجلة الذي دعا فيه إلى إعادة قراءة مؤلفاته نظرا لغناها المعرفي وأبعادها الفكرية والثقافية وأهميتها في وقتنا الراهن واستذكاراً لرحيله في التاسع من نيسان لسنة ٢٠١٨ ، لذا سأحاول استلهام بعض المفاهيم الحداثوية التي ضمّنها كتابه الصادر عن دار سطور/ بغداد ٢٠١٦، ومن هذه المفاهيم:

- أوّلا: المثقف/ أنواعه ووظيفته.

- ثانيا: الأنسنية.

- ثالثا: الدولة/ الأمة.

ولنبدأ بالعنونة، بوصفها الاستشراف الأول لفهم المنظومة البصرية التي قام عليها هذا الكتاب.

عنون سعد محمد رحيم كتابه ب (المثقف الذي يدسُّ أنفه..) وهي مقولة استعارها من الكاتب الفرنسي سارتر الذي قالها في عبارة لا تخلو من السخرية والتهكم، عندما وقف ملهما وموجّها لثورة الطلاب في فرنسا ربيع ١٩٦٨، فمن يومها فقدت كلمة المثقف بريقها، ولم تعد تحتفظ بتلك الهالة الرومانطيقية التي اكتسبتها مذ كتب أميل زولا مقالته الشهيرة (إنّي أتهم) بهذا الشأن يقول أدوارد سعيد “لاحظت أن كلمة مثقف، أصبحت سيئة السمعة، ويعود سبب ذلك جزئيا إلى الألفة  التي نشأت بين الاصطلاحين المثقف والإرهابي، وهي ألفة غير ظاهرة للعيان، لكنها موجودة رغم كل شيء” وقد حاولت قنوات إعلامية انقادت لها أحيانا مؤسسات مختصة في صناعة السينما والدراما التلفزيونية في تصوير المثقفين بوصفهم مجموعة من غريبي الأطوار، أو أقلية من العاقين، المتمردين على أعراف المجتمع وتقاليده، بخلاف ذلك نجد مؤلف الكتاب يوظّف هذه المقولة ليعيد للمثقف هيبته ويعلن أن المثقف الذي يدس أنفه هو، المثقف المبدع والمثقف المفكر والمثقف المنشغل بإشكالية المعنى وبنقد الواقع الاجتماعي والتاريخي والمنغمس بصياغة فرضيات وتصورات فكرية قابلة للنقاش، وقد مارس مبدعون كبار من خلال أعمالهم الأدبية والفنية دورا ثقافيا تنويريا راقيا أسهم في إنضاج الوعي الاجتماعي والسياسي والثقافي للمجتمع، فالمثقف الذي يدس أنفه، هو الذي نعوّل عليه والذي هو مقصد هذا الكتاب عنوانا ومتنا.

ويرى المؤلف في هذا المجال، أنه لا يوجد توصيف قار يضع المثقفين كلهم في سلّة وأحدة، فهم أنماط مختلفة وسنكتفي بتوضيح أهمها بشكل موجز وعلى النحو الآتي:

المثقف النطاط

وهو الذي لا يُعرف له موقع واضح في خريطة الصراعات الاجتماعية، إنما يتقلب على وفق ما تتطلبه مصالحه الشخصية وهو نمط لا تخلو منه أوساط ثقافات كثيرة، ومنها وسطنا الثقافي العراقي والعربي عموما، وكذلك الشخص الذي يطرح خطابا لإرضاء المؤسسات السياسية والاجتماعية والدينية ويساير ما هو شائع، لأنه في هذه الحالة يخون وظيفته العضوية في أن يكون قارئا ناقدا لما حوله، فهناك شريحة واسعة من المثقفين، كشفوا في سنوات المحنة عن الموجهات التحتية اللاواعية لأفكارهم وقناعاتهم، وأحيانا من غير أن يفطنوا أو يريدوا وهي للأسف ذات طابع طائفي أو عنصري أو قبلي ضيق، هذا النوع من المثقفين يستبعدهم المؤلف كليا من مشغل اهتماماته.

المثقف المنفي او غير المنتمي

(الهاوي)

وهو المثقف الذي يُعدُّ خالق لغة تحاول قول الحق بوجه السلطة، “المشوّش على الوضع الراهن “ بحسب إدورد سعيد، أمينا لمعايير الحق الخاصة بالبؤس الإنساني والاضطهاد يجهد لتهشيم “ الآراء المقولبة والمقولات التصغيرية التي تحد كثيرا من الفكر الإنساني والاتصال الفكري “.

وصفتا غير المنتمي والهاوي، تمنحانه القدرة على عدم الخضوع لإيحاءات وإملاءات السلطات الساحقة القوة، التي يبدو وكأن لا قدرة للمثقف على تغيير واقع الحال الذي تخلقه السلطات غير أن يكتفي بدور الشاهد، أما صورته منفيا، فتجعل منه دائم الترحال عبر حدود الثقافات، إدوار سعيد مثالا، حيث كان رحالا معرفيا بين تخصصه الأكاديمي وقضايا السياسة، إذ يلعب المثقف في المجال السياسي دور الوسيط، يؤسس إتصالات ويقيم روابط بين الثقافات والبشر ويعزز نزعة إنسانية عقلانية “بحيث يرى الآفاق البعيدة، ويتوفر على الفضاء الضروري لمجابهة السلطة، لأن الخضوع الأعمى للسلطة يبقى في عالمنا أسوأ التهديدات التي تُخيم بظلالها على الحياة الفكرية النشيطة والأخلاقية “.

المثقف التنويري/ المثقف الشاهد

يرى سعد محمد رحيم، أن في أغلب من ننعته بصفة المثقف متخصصا في حقل علمي أو إنساني ما (طبيبا او أستاذا أو مهندسا أو مدرّسا أو صحافيا أو ممثلا مسرحيا..) لكنه لا يصبح مثقفا بحيازة اختصاصه، وإنما بتخطيه لحدود ذلك الاختصاص، مغيرا على الاختصاصات الأخرى، ولا سيما الاجتماعية منها والإنسانية، ورابطا معارفه بالتأريخ والسياسة وقضايا المجتمع، فهو الفاعل الاجتماعي المتعاطي مع الأفكار التي تخص الشأن العام، والذي يدلي بآراء مصاغة بألمعية حول القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، عابرا الاختصاصات الضيقة، مقيما أرضية مشتركة بين تخومها، مسلحا بلغة ومنهج وحس جمالي وضمير أخلاقي تجسّد بمجموعها رؤيته إلى الأشياء والعصر والأحداث.

هذا النموذج من المثقفين لا يمتلك حلولا سحرية لمشكلات الواقع، وأفكاره التي يطرحها ويتم تداولها، ولا ننتظر منه تحقيق معجزات سريعة “ فما يغير الواقع ويحوّله يتمثل بجملة عوامل محرّكة تتعلق بقوى السلطة وما يقاومها، وصراعات المصالح والإرادات” أما مهمة المثقف فهي طرح تلكم المشكلات، واخضاعها للسجال العام وللنظر التحليلي النقدي، وبيان أبعادها إلى جانب اقتراح الحلول لها، وهي بطبيعة الحال قابلة للنقد والنقاش، ليشكّل مجتمع المثقفين في النهاية، قوة ضاغطة فاعلة ومؤثرة في مجريات الأحداث، أن تكون مثقفا بهذا المعنى يجعلك في موقع صعب من الخريطة الاجتماعية - السياسية متحملا في الأقل مسؤولية أن تبقى شاهدا لا يكلّ، أن تكون مثقفا هو أن تقرر التورط في الممارسة الإبداعية الجمالية، كما في الشأن العام ما حييت.

عرض مقالات: