اخر الاخبار

نقف في رواية (نشيدنا الحزين) للروائي شاكر الأنباري أمام جهد كبير في الانتاج الروائي المتعدد الجوانب والمساحات الإبداعية عبر نسق سردي وبنية روائية مفعمة بالبوح، في اسلوبية منهجية قادرة على أن تباعد في ثنايا النص الروائي وتلاقي ما بين المشاعر الانسانية المركبة التي تجمع بين حب الوطن وكراهية المكوث فيه، الاخلاص والجفاء، كرم المشاعر وبخلها، نكران الذات والأنانية، القوة والضعف، المثالية والواقعية، دفء الوطن وزمهرير الغربة، الحرب ومخلفاتها والسلام ونتائجه على داعميه .

الرواية تتناول موضوعة الغربة عن الوطن لمجموعة اشخاص يتحدثون ويتسامرون فيما بينهم بعدما شاءت الظروف أن يتواجدوا في بلد من البلاد البعيدة الباردة والمملوءة بالثلوج والتي تلفها طبيعة جميلة واجواء ساحرة وهدوء قاتل، رغم ان الروائي وصفهم على انهم ارواحا تهيم في مقبرة بحسب الفكرة التي ارادها كي تستوعب روايته اجيالا لمغتربين كانت حيواتهم هائمة ضمن صورة سريالية تسكن مخيلته، الأمر الذي يجعل القارئ يقرأ وهو يفلسف الحياة وكيف أن الانسان ولد ونمى فيها ولازال يصارع مصيره في معترك التيه اللا منتهي، فهو حتماً لم يصنع قدره، ولم يحاول أن يرسم صورة الغد الآتي إلا عبر تخطيطات مموهة متناقضة؛ تحسبا لهزيمة من نوع ما فنراه يتمسك بالتناقض خوفا من المجهول وبحثا عن نجاة، نجاة من حرب ونجاة من حرية مخترقة ونجاة من الاستلاب الجمعي الذي ابتليت به الشعوب العربية، فتتهشم السنوات، وتموت الاماني، ويتلاشى الطموح، في ضبابية القدر وجبروته، هذه الفكرة التي تواردت إلى الاذهان عند القراءة وقد تبنتها شخصيات كثيرة في الرواية استعان بهم الراوي لتتحمل الرواية بعد ذلك اصواتا متعددة ومختلفة الجنسية والفكر والنشأة ومنهم (كمال الشاعر ونائل وجميل ومحمد ومراد وليث وانكيدو وبسمة ومنى ...) إن كل شخصية من هذه الشخصيات لها رسمها الخاص بها داخل الروي وقد حاول الروائي أن يستخرج مكنونها إلى الملأ أو إلى النور، واختار لنفسه مشقة الولوج إلى اعماقها القصية وهذا يتطلب منا دراسة كل شخصية بتفرد تركيبتها في ورقة مستقلة، إلا اننا نستطيع أن نجوب عباب اوهامها على وفق نظرة شمولية ليست تفصيلية؛ فإذا اخذنا كمال الشاعر مثلا نجده ذا شخصية مركبة تعاني من صدمة الثقافة التي هي حصيلة المعاناة ما بين الذات في معايشتها وتجربتها الفعلية، على الرغم من تكيفها الظاهري الذي يعد السمة البارزة من بين سمات كثيرة لها ولكنها السمة المحركة للسمات الاخريات التي تتلون كباقي اوصاف وتراكيب الشخصيات في الرواية بتداعيات ترك الاوطان، وهذا معبر عنه بإحساس عدم الألفة والشعور الخفي بالطرد في مزاوجة مع هاجس راسخ في سريرتهم يدعوهم لرفض الحياة المتاحة لهم في البلاد التي يسكنوها، وهناك فلسفة ما مطروحة من لدن الراوي حين يغادر ألسنة شخوصه وكأنه يبثها للمتلقي لأجل الايغال في تعميق الحالة الموصوفة وتبعات الاحساس بفجيعة الغربة وآلامها ومن ذلك “ اننا محكومون بروح قطيعية، يدفعنا إليها خوف من التواصل مع الآخر المختلف، وخوف من تأثيث حيز فردي يمكن للشخص بناؤه لنفسه بوعي وعناية. هشاشة متأصلة في ارواحنا، افرزتها تربية اجيال على مفاهيم واحدة”. 

إن هذا الاسلوب السردي الجامع لمكوناته وادواته واشكاله وبنيته الفنية في صياغة مكونات السرد اللغوي والتعبيري، له دلالاته بإيحائيته وكشوفاته البليغة لوضع عاشه العراقيين جميعا على مدى عقود من الزمان تربى فيها الفرد على وفق اسلوبية حياتية ومفاهيمية موحدة وكأنها زي مقدس للفكر والتوجه والسلوك، ولاشك أن ما طرح في هذه الرواية هو نتاج ادبي انساني  تقف وراءه اداة فاعلة في الصياغة والتكوين، وهو الخزين الثقافي الموسوعي، الذي يمتلكه الروائي ( شاكر الانباري ) ذلك انه قدم صورة شاملة لطبيعة النفس وهي تواجه احد كوارثها في احساسها بالفقد والدونية المضمرة تحت وابل من مظاهر الترف والعيش الرغيد ليجعل منها ادوات روائية تعبيرية دالة في بلاغتها الايحائية والرمزية، وهذا التوظيف البارع، جاء بصيغة ثنائية مركبة في احداثيات لغة السرد فقد انتهجت مسار السرد / الحكائي، في المتن الروائي ضمن انتاجية مرتبة في سياق منظم وهي تسلط الاضواء على ديمومة الصراع بين  الذات والعام أو بين الذات والواقع المحسوس الطافح على السطح بكل ثيماته، بعد أن  جعلته عجينة طيعة نحو الانحراف في مسالكه الدالة وفي اشاراته واشكالاته وفي تباينات موضوعية شملت حتى تاريخ الأمم، وذلك حين يتحدث عن الامبراطورية البريطانية والجنرال مود ومعركة الكوت والمس بيل ونوري سعيد والملك فيصل والجنرال لجمن والشيخ ضاري والعقداء الاربعة  او يتحدث عن تهجير العراقيين في زمن ما بسبب التبعية لايران،  وكل ذلك كان له انحرافات سردية في دهاليز معتمة وشائكة الافق توسمت ذاكرة المغتربين المليئة بالاشواك والمطبات المنحرفة عن جادة الصواب والملاصقة له في الوقت نفسه، بما تحمله من متناقضات تطفح بها مرارة الفواجع والالام في انكسارات هزائمية مُني بها الوطن الام وهي مخيبة للوطن والمواطن في بلده او في غربته، والغربة في هذا الموضع كرسها الروائي ليجعل من الوطن برقا سماويا تعلو صرخاته الموجعة والمؤلمة التي تزيد من عذاب الفرد في اتون توصيفات لحياة موهومة لخصها الروائي بالمقطع التالي “كنا نسير قطيعا غريب الهيأة مرة في وسط الشارع، ومرة على الرصيف المثلج، والمارة يرقبوننا بفضول. ملابسنا لا تناسب الأرض، وشعورنا السود متطايرة، واعضاؤنا متحركة مثل نوابض عند الحديث، وكنا لا نترك شيئا الا ونصبّ عليه نظراتنا وملاحظاتنا، إذ اعتبر البعض أننا نعيش معجزة بوجودنا وسط هذا الزمهرير، والنساء الشقراوات، والمحال النظيفة المدارة من قبل النساء. سنعيش في هذا العالم غرباء، ونموت كي نصبح إمثولة لأحفادنا”. 

في هذه الرواية الناضجة اعادنا الانباري إلى عالم الكتابة الرائقة والألفاظ والتراكيب التي تداعب الروح وتشغل الفكر، ولم يعوِّل فيها على براعته في نسج لغة خاصة به ولكن تلك المهارة كانت بمثابة الإطار الذهبي الذي صاغ عن طريقه تجربته الإبداعية بحرفية، فكان الخط النفسي للرواية متسقا مع بواعث وخلفيات الشخصيات المحورية بشكل يدفع القارئ إلى مواصلة القراءة من دون شعور بانفصال نفسي عند الانتقال من مكان إلى مكان ومن راو إلى آخر وعند الحفر في التفاصيل الدقيقة لمعطيات كل شخصية، فكانت مفردات كل شخصية متوائمة مع المكان والزمان وهي تفصح عن العمر الذي ضاع ما بين الوهم والأكاذيب وبين الأمل المتوهج الذي سرعان ما خبا وأنطفأ، وما سهّل تلك المهمة ما احتوته الرواية من لغة وأسلوب مميزين. نحن أمام لغة عذبة سيالة، رقيقة شجية، وبناء درامي خاص ومتميز يعتمد على تعدد الأصوات السردية، ما أفسح المجال للأبطال ليعبروا بأنفسهم عن مشاعرهم ويبرروا مواقفهم ويتحدثوا عما يختلج بدواخلهم.

ــــــــــــــــــــــ

*صدرت عن دار سطور- بغداد 2023.

عرض مقالات: