اخر الاخبار

حين نجد أنفسنا مندفعين لنكتب عن رواية، تُنازعنا فكرتان الأولى هي انطباعنا الاولي عن الكتاب من خلال العنوان وتصميم الغلاف والالوان الداخلة في التصميم، ثم انطباعنا عن الكاتب، فأي رواية لا بد ان تعكس لنا وجهة نظر الكاتب ونمط تفكيره وما يدور في ذهنه، ومن ثم يتحدد موقفنا كقراء متلقين نقرأ النص على وفق تساؤلات منها: هل وفِق الكاتب في إتقان الشخوص وادوارها؟ هل كان السرد مؤثرا وقويا، وهل تنامت الحبكة وتصاعدت؟ هل يقع على عاتق الرواية أن تقدم رؤية جلية عن مقاومة العناصر المهيمنة في المجتمعات المنغلقة على الفكر الديني؟ هل يتمثل دور الروائي بتقديم الصور الذهنية عن الفكر الفلسفي بصفتها التي يقع على عاتقها سلطة مزدوجة للثقافة (أبوية ومحلية)؟ أم ان دوره يتجاوز هذه الصور النمطية لتمكين التغيير وفك اغلال العبودية المهيمنة في مجتمع الرواية وتغيير المفاهيم؟

ولنبدأ بالعنوان(صاحب الراية وتحولاته الوشيكة) نلحظ أن (علي حسن علي) قد افاد القارئ في الاشارة للمضمون الذي تدور الرواية حوله، فكانت هذه التسمية خير مؤشر لفعاليات الرواية واثرها في الذهن أثناء قراءتها حزنا وفرحا وتشويقا واثارة، فعنوان الرواية يعكس لنا الأحداث التي تدور في حلقات الفكر الميتافيزيقي الذي انزاح فيه الكاتب عن النقاش في المقدس للفكر الديني لملامسة القضايا المسكوت عنها والشائكة على ارض الواقع، التي تعد من المحرمات الطاردة للكثيرين في طرحها للنقاش، إذ استخدم الكاتب تقنية استعارها من أسلوب تيار الوعي الذي لامسته الرواية العالمية في منتصف القرن الماضي، حيث يكتب الراوي ويتذكر، وتخرج من مخيلته الشخصيات، وتدور الأحداث ليروي خلال ساعة أحداث سنوات طويلة، وهو ما عرف بتيار الوعي، فرواية (صاحب الراية وتحولاته الوشيكة) هي تفصيل لزمن معاناة والم مواطن وجد نفسه فريسة لخيال وهوس اوقع فيه نفسه بعد ان رسم خياله وهما حاول الايمان به على الرغم من حدية الصراع الناشب بين عقله الرافض وقلبه المؤمن بذلك الوهم مع الشعور بالذنب الذي كان يرافق كل خطيئة يقوم بها رفيقه (باسم) يكون هو شاهداً عليها. تدور القضية الرئيسة حول تجليات السياق الثقافي للمجتمعات المنغلقة على ذاتها، وعرض آليات القوة التي يفرضها كل من المجتمع والتراث السلطوي للعادات والتقاليد المحلية التي قد تشوه فكر أجيال كاملة، ويتضمن طرح هذه القضية إشكالية مهمة تعرضها رواية “صاحب الراية وتحولاته الوشيكة” لينقل لنا عالم من داخل الفلسفة الدينية بطقوسها وأفكارها الحاكمة، عبر اسلوب سردي يمُيز كل رواية، حيث نرى ظهور الرواي الذي تربطه علاقة بأحداث وشخصيات الرواية، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في كل التحولات التي حددها الكاتب في ثلاثين تحول. تبدأ الأحداث الواقعية لزمن المؤلف المعاصر، فهو في زمان ومكان مختلفين عن الفترة الزمنية التي تدور خلالها احداث الرواية، وفي غربته هذه يتذكر ويكتب رفضه لواقعه الحالي، وهنا يمثل المستوى الاول للزمن فيما يتجسد المستوى الثاني للزمن بما تحتله شخصيات الرواية، وقصصها في زمن مضى هو زمن تاريخ الكاتب والبطل في الرواية. وهذا الخلط المركب بين الزمن الماضي والحاضر يجعل المتلقي في نشوة  وشوق لمعرفة أسرار محيطه وخباياه، ومعالجته في الزمن الحاضر. إذ تظهر شخصيات الرواية من مخيلة المؤلف، لتتجسد أمامنا وتحكي عن زمكانية مغايرة لزمن المؤلف، وتعود بنا للماضي متحدثة خطاب اللغة التقليدية المحلية في حوارية بـ(بغداد والجنوب) عبر تقديم خطاب التراث المحلي الذي عمد اليه المؤلف بصفته أداة معالجة لتشظي الهوية بين شرائح المجتمع، فقد استطاع الكاتب أن يعبر عن شبكة من العلاقات المعقدة في النص، ويعكس القضايا الشائكة عبر خلق عالم متعدد المستويات يتصاعد مع توجه هذا النص عبر تقسيم الفضاء السردي إلى ثلاثة مستويات متداخلة. في المستوى الأول الراوي ذاته، والثاني حواري بينه وبين الشخصيات، اما المستوى الثالث فهو يتناول الأحداث في الفضاء العام داخل نطاق حي المعامل.

ان لكل فنّ أدبي خصوصيّته وحضوره الذي يطغى حينًا ويخفت حينًا آخر؛ لكننا نجد في هذا العمل السردي، مغايرة ورغبةً لدى المؤلف في إشباع تجربة الكتابة الروائية وجعلها فنًّ اختلاف عبر المزج في حبكة الرواية بين التاريخي والواقعي والموروث والحلم وبين الحوار والسرد. فـ(علي حسن علي) يلزم القارئ لروايته منذ الصفحة الأولى حتى الاخيرة على البحث في متنها عن الاجوبة المنطقية لتساؤلاته التي اوردها في بداية كتاباته والتي قد غاب عن الكاتب الاجابة عن بعضها في نهاية الرواية او ربما تركها متعمدا كفجوات يراد من القارئ ملئها. كما انه صرح لنا في مقدمة الرواية بهمومه وهموم ابناء جلدته، وذلك أثناء انتظار المنقذ وجدلية ولادته او ظهوره، سرد الذكريات، ومما جاء في صلب الرواية الجدل الدائر بين شخصية بطل الرواية واخيه وبينه وبين العلماء الذين اعربوا عن رفضهم لسلوكيات (باسم) وامتعاضهم والترفع عنها. يأسر الكاتب مشاعرنا ونحن نتشبث بكلماته ووصفه للأحداث بدقة، وهو في الوقت ذاته يشعل النيران لتحرق اعماقنا شوقا لمعرفة الاحداث وهي تجري في تسارع وانفعال لإنهاء صراع داخلي وخارجي في نهاية الرواية فأتقن التعبير، لكنه انزاح في احيانٍ كثيرة الى الفلسفة في بعض طروحاته التي قد تكون مرجعياته العلمية سببا في هذا الاقحام، فكان يخرج بين الفينة والفينة عن الاطار الجمالي للرواية نحو اطار علمي بحت مما يُثبط الحافز الى المتابعة والاستمرار لكنه يعود ثانية ليشعل فينا نار التشويق والانتظار والمتابعة.

إن الجميل في هذه الرواية هو الشعور وكأننا امام موضوعين يسيران بالتوازي من بداية الرواية حتى ختامها الاول يكمن في جماليات الرواية وتسلسلها الدرامي في حين يشكل الخط الثاني موضوعا علميا وطرحا فلسفيا للفكر باسلوب سلس يوفر متعة الاكتشاف.

ان معظم الأعمال الأدبية والفنية تصدر عن خلفية اجتماعية لها علاقة بمعتقدات الفنان ورموزها وثقافتها، وتعكس خصائص البيئة التي ينتمي إليها. لذا انصب اهتمام الكاتب على المسكوت عنه، والتي ما يزال ينظر إليها على أنها تابو ومحرم، فقد استطاع في جسارة اقتحام حقيقة أوضاع هذا التابو، وذلك في شكل غير تقليدي يدخلنا إلى العالم الخرافي الذي يحاول بعضهم مزجه بالديني المنغلق وسط قضايا جريئة. ان العالم الذي يحلم به ويتمناه قابع في ذهنه وخياله فقط ومنقطع عن الواقع الذي أندثر ملامحه وتغيرت، لكنه يكتشف قدرته على إستعادة هذا العالم وأن يتعايش معه في مخيلته عبر السرد، وتظل هذه الشخصية في حوار مستمر بين الحاضر والماضي، حيث يُعرب المؤلف عن قلقه ورغبته في الرجوع، وكذلك بين شخصيات الرواية المتسيدة؛ إذ يمثل الكاتب شاهدًا على الأحداث وبفضله تتجلى لنا خبايا وأسرار هذا العالم الذي جسدته الرواية بوصفه سيرة ذاتية للمؤلف. فهو يحاول أن يستجمع أشلاء هويته المتناثرة بين الماضي والحاضر، بين الغربة والجذور، ولا يسعه في هذا التمزق بين العالمين إلا استدعاءه لذاكرته التي تعرض لنا ثقافته الأصلية من خلال تقنية السرد، والتي تعد “ تقنية حفظ التاريخ، التي تشغل مكانة متميزة ومركزية في الحفاظ على ثقافة الجماعة ودعمها، كما أنها تعد نمطًا من أنماط التواصل التي تجعل الماضي يخاطب الحاضر. وهذه التقنية وتنقل لنا التساؤل حول الهوية والعلاقات التي تربط المجتمع الديني والمجتمع العلماني ومقابلة بين عزلة الكاتب داخل  الفكر وتجاذباته، وبين سيطرة الموروث والصورة المتوارثة عرفيا في المجتمع المنغلق على ذاته، فقد صُمم الفضاء في هذه الرواية مراعاة للزمن المركب للأحداث، وهي تقنية “ الأبعاد الزمنية المعقدة والملتبسة التي يؤسسها الحكي، وتتلاشى فيها الحدود بين الماضي والحاضر.وعلى الرغم من غياب طرح الاجابات الضرورية للتساؤلات السابقة،  وانزياحه عن الخط الذي وضعه للتلقي في بداية الرواية لكنه ابقى على عنصر مهم تمثل في اثارة حافز المتلقي وتشويقه في استمرارية المتابعة والتلقي وقد يعني هذا بحد ذاته نجاح للرواية وللراوي اختلاف ادواره.

عرض مقالات: