اخر الاخبار

في رواية “العجوز والبحر”، لأرنست همنجواي، نجد دقة وصف مسرح الأحداث وهو البحر، وعاد همنجواي ليصف أيضا العجوز بكلمات موجزة، وقد تداخل وصف البعد الزمني كذلك.

والآن سنذكر فكرة الرواية الأساسية بإيجاز شديد كي نبين كيف أدخل همنجواي وصف البطل ووصف مسرح الأحداث في قلب الفكرة الأم فاستحق أن ينال جائزة نوبل.

الفكرة والرمزية:

الرواية تصور الصراع الأزلي بين الإنسان المتمثل في العجوز “سانتياجو” وقوى الطبيعة المتمثلة في الصراع المستمر بينه وبين السمكة الكبيرة التي تغلب عليها ومن بعده أسماك القرش التي تغلبت عليه.

الإنسان هنا استطاع أن يقهر قوة أقوى منه بكثير بعقله وعزيمته وتراكم خبراته في مجاله والمتمثل في نجاحه عن صيد سمكة كبيرة بهذا الحجم الهائل، لكن عندما اتحدت هذه القوى المتمثلة في مجموعة من أسماك القرش قهرته، فالاتحاد قاهر غير مقهور حتى لو كان يبارز العزيمة المتلبسة بالخير.

وصف بطل الرواية: «كان العجوز جسدا ناحل العود، توغلت في قفاه غضون (تجاعيد) عميقة، وقد عدت حرقة الشمس في انعكاساتها على مياه البحر، على بشرته عدوانا قاسيا، فملأت خديه بالبثور، واستدارت فنثرت الكثير منها على جانبي وجهه، أما كفاه، فقد حفرت فيهما الحبال التي طالما جرر بها الأسماك الثقيلة، جراحا عميقة الغور ليس بينها جرح جديد، فهي جميعا قديمة قدم الحفريات في صحراء عديمة الأسماك، كان كل ما فيه عجوزا مثله.. إلا عينيه، عيناه كانتا في صفاء مياه البحر، يطل منهما المرح، عدم الاعتراف بالهزيمة.»

والسؤال الآن: كيف شارك هذا الوصف في فكرة الرواية وحبكتها؟

الإجابة: تشكلَ كل جسده بعامل البيئة، فهرم فيه، وما عامل البيئة إلا مسرح الأحداث، ويأتي همنجواي بوصف عينيه في النهاية ليخدم فكرة الرواية، فالنظر إلى التحديات والتيارات الجارفة بعين التفاؤل وتوفير الخبرة والعزيمة -المتمثلة في وصف  جسده ووجهه- من أجل مصارعتها يحقق الفوز لا محالة.

وصف مسرح الرواية: «كان زورق العجوز قد أوغل في البحر، حتى بدت السحب فوق الأرض، كأنما هي جبال، وبدا الشاطئ كأنما هو شريط طويل مخضوضر تطل من ورائه التلال الشهباء الضاربة إلى الزرقة. أما الماء، فقد ضرب لونه إلى الزرقة الحالكة المشوبة بلون الأرجوان. وتملى (تمتع) العجوز الماء وراح يراقب استقامة حباله فيه، وهبوطها إلى أغوار لا تراها العين. وكان الضوء العجيب الذي ترسله الشمس في الماء بعد أن ازدادت سموقا (علوا) في كبد السماء، بشيرا بجو طيب، يؤكده شكل السحب المترامية على الأرض في الأفق، وكان الطائر قد أوشك أن يغيب عن مدى الرؤية، ولم يعد على وجه الماء غير بضع بقع من أعشاب السرخس الصفراء، وحولها مثانات (أكياس ملآنة بالبول) بعض الطيور المغردة، عائمة حول الزورق، تتخللها بعض الاسماك الصغيرة تسبح في الماء وترسل فقاعات لطيفة الصورة.»

كل هذا الوصف له علاقة مباشرة بأحداث الرواية الضاربة في الفكرة الرئيسة.

الزورق، والسحب، واستقامة حبال الماء وهبوطه في الأغوار، والشمس السامقة، ووجود الطيور، كل هذه الأشياء سوف تتحد معا ليعدّ من خلالها همنجواي المعركة الكبرى التي سوف تدور بين العجوز والسمكة ومن بعدها مجموعة من المعارك مع القروش الضخمة، ومن كل هذه المعارك نستخلص الصراع الأزلي بين الإنسان وقوى الطبيعة، والتي يظهر فيها جليا أن عامل الاعتصام قاهر غير مقهور ولو كان المبارز يتسم بخبرة ورباطة جأش وشدة بأس، لذلك أشار همنجواي في مواضع كثيرة إلى حاجته إلى الغلام ليعاونه على الصراع الذي فرض عليه.

السرد:

والسرد أقسام، منها سرد الروائي نفسه من خلال الحديث عن مشاعره وثقافته وخبراته، وهنا تتجلى ثقافة الروائي الذي يطلق لها العنان لتحكي ما يحلو له بعيدا عن قيود الشخصيات وانفعالاتها.

ومنها سرد مختص بالزمان والمكان وسمات الشخصيات، وهو الذي يحدد شكل المكان الذي سوف تُجرى فيه أحداث الرواية، وسرده مبني على ثقافة الروائي وبراعته في كيفية دمج المكان بفكرته، واختيار الزمن والتنقل بين أوقاته.

تطبيقات:

وصف سردي لطبيعة المكان: «وهو قصر كبير، بداخله حديقة غناء.»

سرد وصفي لطبيعة مكان ينم عن شخصية ثرية، وما دام الروائي جاء بذلك الوصف فلابد أن يشارك وصفه في أحداث الرواية.       

وصف سردي  للأزمنة: «ومرت عليه الساعات وكأنها دهر، بينما صديقه في الجانب الآخر من حياته تمر عليه الساعات وكأنها بضع ثوانٍ.»

هذا السرد عن شخصيتين، الأولى تعاني من الفراق فهي تحترق من طول الانتظار، وربما أنها واقعة تحت وطأة العذاب، والأخرى تعيش لحظات سعيدة لا تريد أن تنقضي؛ لذلك تشعر بأن الساعات تمر كالثواني.

وصف سردي لشكل شخصية: «بدا في جلبابٍ أزرقَ نظيف —نظيف بالقدر المتاح لراعٍ — متلفع الرأس بلاسةٍ غليظة وقاية من الشمس، ومنتعلًا مركوبًا قديمًا باليًا تهتكت أطرافه.»

هذا السرد عن شخصية فقيرة لكنها تحاول بقدر المستطاع استغلال أقل الإمكانات لتبدو نظيفة.

وصف سردي لطبيعة شخصية: «وهو رجل وقور، يتميز بدماثة الخلق وحسن المعشر.»

ربما وصفه الروائي بذلك حتى لا يخل بحبكة الرواية ويزيل الالتباس عن تلك الشخصية التي سوف تؤدي دورها في الرواية.

 سرد الروائي عن انفعال الشخصيات لأحداث الرواية:

«التحم في قلبه اليأس بالغيظ والغضب.»

«وضجوا بالضحك وأعقب ذلك نوبات سعال.»

«فزم شفتيه فى استعلاء واستنكار.»

في الأمثلة الثلاثة السابقة تظهر براعة الروائي في استخراج عما يدور في خلجات الشخصيات إزاء انفعالاتها مع الأحداث، وذلك من أجل نقلها

للقارئ مع تقديم تقرير مبين للغة أجسادها.

وإذا تطرقنا إلى مثال حي لتجسيد كل ما سبق نجد ذلك في رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، حيث تجد كل هذا واضحا جليا عندما وضع سرده في الرتوش والبراويز الأولية للمكان أو الزمان اللذين سوف يجريان فيهما حوار الشخصيات، كما يتجلى أيضا في وضع السمات الأساسية

للشخصيات.

سرْد الروائي بمعزل عن الشخصيات مثل صفحات 120 وحتى 122 من رواية “أولاد حارتنا” لمحفوظ.

ركز فيه على  المكان، ووصفه بخطوط عريضة ليكون بمنزلة المسرح الذي سوف تجرى عليه أحداث الرواية، وجعل مركزية المكان هو البيت الكبير والذي عليه سوف يجرى الصراع بكامله تقريبا.

كما رسم الخطوط العريضة لحياة القاطنين بهذا المكان، وذكر فيه شرائح المجتمع التي سوف تشارك فكرته وتنفعل معها.

وأشار أيضا في تلك الصفحات عن الزمن الذي ستجرى فيه الأحداث، وهو زمن الفتوات والإتاوات التي يجبونها من الفقراء والضعفاء والممتد من العصر الجاهلي وحتى الخمسينات، وركز في تلك المقدمة عن فتوات الحارات الذين لوثوا شرف تلك المهنة؛ حيث كان الفتوات قديما يحمون الضعفاء لا يسلبونهم.

وبعد تلك المقدمة السردية ضلع محفوظ في الدخول إلى تلك الشخصيات التي سوف تؤدي أدوارها التي رسمها لها في المكان والزمان نفسه وما بينهما، وافتتح بقوله بعد أن عنون الفصل باسم “جبل”: «ونفد صبر آل حمدان فاصطخبت في حيهم أمواج التمرد.»

تساؤل:

ويجب هنا أن نتوقف لنتساءل: يسرد الروائي بمعزل عن الشخصيات، ويسرد كذلك نقلا عن الشخصيات، لكن ما علاقة الزمان والمكان بكلا السردين؟

والإجابة عن هذا السؤال في غاية الأهمية، لأنه ينبثق منه أسلوب ترميز الرواية وتحديدها إلى عدة مقاطع بناء على علاقة السرد بالزمن والمكان.

نجد أسلوب محفوظ في رواية “أولاد حارتنا” استخدم السرد المتسلسل في قصة “جبل”، وهو السرد الذي يروي فيها السارد الأحداث حسب التوقيت الزمني، ثم قفز قفزة هائلة واستخدم السرد المتقطع في الرواية نفسها وهو السرد غير المرتبط بترتيب الأحداث حسب الزمان والمكان.

وإليك خط سير السرد الذي استخدم فيه محفوظ كلا السرديْن، من صفحة 120 سرد لنا شكل المسرح الذي سوف يجرى عليه الأحداث الخاصة بالأبطال الأربعة (جبل ورفاعة وقاسم وعرفة) وطبيعة أهله، وبعد أن خلّق بؤرة صراع من خلال سرد شكل المسرح وطبيعة أهله سرد لنا سردا متسلسلا، والذي يتمثل في الصراع بين جبل وآل حمدان في جهة، وفي الجهة الأخرى الناظر والفتوات.

أراد آل حمدان حقهم في الوقف فجمعوا أنفسهم وذهبوا إلى بيت الناظر، وجد الناظر أنه لابد من ردعهم فأرسل إلى الفتوات، حتى صفحة 137 الذي قص فيه محفوظ حدثا من الماضي وهو انتشال هدى هانم له من حفرة يستحم فيها، وهذا سرد استرجاعي.

وكان رد فعل الفتوات هو فرض حظر تجوال على آل حمدان بسبب جرأتهم على الشكوى منهم عندما ذهبوا إلى بيت الناظر.

يجلس جبل وهو الركن الشديد لآل حمدان لوحده يفكر ما حاق بآل حمدان من هوان، حتى يسمع استغاثة دعبس به فسعى إليه، وقتل جبلٌ الفتوة قدرة.

وسأل فتوات الحارة عن قدرة، إذ لابد من أخذ موقف تجاه ذلك وإلا سيجدون أنفسهم يُقتل الواحد منهم تلو الآخر، فذهبوا إلى الناظر من أجل ذلك، وحدث حوار فيها صراع بين جبل والفتوات من أجل ما يريده الفتوات من إنزال أشد العقاب على آل حمدان كانت نتيجته ترك جبل للبيت الذي تربى فيه.

وتكررت الحادثة نفسها، حيث استغاث الشخص نفسه ويدعى دعبس من شخص يدعى كعبلها وكانت النتيجة أن اضطر جبل لمفارقة الحارة خشية أن يأخذوه بقدرة. ظل هاربا حتى قابل البلقيطي وبناته، ومنذ تلك اللحظة نجد أن محفوظ قفز قفزة من السرد المتسلسل المرتبط بالزمن إلى السرد المتقطع غير الخاضع لعامل الزمن، حيث نقل مسرح الأحداث بين جبل والبلقيطي وبناته مهملا في ذلك الأحداث التي جرت في الحارة والتي أخبره بها دعبس عندما شاهده وهو يمارس أحد ألعابه السحرية. والسرد من حيث الكم هام جدا، فمن المفترض أن الروائي لا يسهب في سرد لا يفيد أو يضيق السرد بالقدر الذي يخل بالمعلومات التي يجب إيصالها إلى القارئ.

عرض مقالات: